أ. د. وصفي عاشور أبو زيد
لم يكن طوفان الأقصى حادثةً عابرة في سجلّ الصراع، ولا مجرّد مواجهة متكرّرة تعيد إنتاج مشاهد الألم فحسب؛ بل كان لحظةً كاشفة أعادت ترتيب خرائط القوة، وأظهرت ما خفي من طبائع الأمم، وفضحت ما تراكم من زيف الحضارات الحديثة في امتحان الأخلاق والعدالة. لقد بدا الطوفان، منذ ساعاته الأولى، كأنه قدرٌ يريد الله به أن يوقظ أمة، ويعيد إليها روحًا شارفت على الذبول، ويمنحها فرصةً جديدة كي ترى نفسها في مرآة الصبر والدم والرجاء. وبدت غزة – وهي تقف على تخوم الفناء – أكبر من جغرافيتها، وأوسع من حصارها، وأقدر على أن تحمل نيابةً عن الأمة عبء التذكير بأنّ الكرامة لا تُشترى، وأنّ الأرض لا تُستردّ بلا وجع، وأنّ الشعوب قد تُجَوَّع وتُقصف وتُهجّر، لكنها لا تموت إذا بقي في قلبها قنديلٌ من نور اليقين.
ولأن هذا الحدث العاصف قد أحاطته الأسئلة، وتنوعت بشأنه القراءات، وتنازعت حوله العواطف والمواقف، فقد كان لا بدّ من ميزانٍ ثابت نزن به الوقائع، ونضع به الأمور في مواضعها الصحيحة؛ ميزان المقاصد الشرعية الذي يميّز بين المصلحة الحقيقية والوهم المتزيّي بلباسها، ويكشف الفارق بين المفسدة العارضة والمفسدة القاضية على هوية الأمة ومصيرها. ومن هنا جاء هذا التحليل ليتتبع الطوفان في آثاره الكبرى: العسكرية والاجتماعية والروحية والحضارية، وليبيّن كيف تُولد تحت الركام أمة جديدة، وكيف يعلو من بين دماء الشهداء صوتٌ يُذكّر العالم بأنّ هذا الحقّ لا يموت، وأنّ هذه الأرض لا تُسلَّم، وأنّ هذا الشعب لا يُهزم.
من أجل هذا رأيت أن يكون الحديث عن: “طوفان الأقصى بين المصالح والمفاسد”([1])، وأن يتجسد في عشرة محاور، بعد التمهيد وقبل الخاتمة الجامعة، على النحو الآتي:
المحور الأول: في تحديد معنى المصلحة والمفسدة ومعيار الترجيح الشرعي
حين يتساءل الناس عمّا جلبه طوفان الأقصى من مصالح، أو عمّا خلّفه من مفاسد ودمار وتشريد، فإن هذا السؤال – على وجاهته الظاهرية – لا يمكن النظر فيه إلا من خلال ميزان شرعيّ محكم، لا من خلال الانطباعات السريعة ولا العواطف العارضة. ذلك أن المصلحة في المنهج الإسلامي ليست ما يراه الإنسان مناسبًا بعقله القاصر، ولا المفسدة هي ما يبدو مؤلمًا لعينه العاجلة؛ بل معيار التقييم كلّه مردّه إلى ما اعتبره الشرع مصلحة، وإلى ما وصفه الشرع بأنه مفسدة. نعم، قد تشترك العقول في إدراك بعض المنافع والمضار، غير أنّ الحكم النهائي يبقى مرتهنًا إلى الشريعة؛ لأنها وحدها التي تُعطي للوقائع وزنها الصحيح في ميزان الحقّ.
وهذا يجرّنا إلى قاعدة عظيمة قررها أهل المقاصد، وعلى رأسهم سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله، وهي أنه لا توجد في هذه الدنيا مصلحة خالصة من شوائب المفسدة، ولا مفسدة خالصة لا يمتزج بها شيء من المنفعة. فالمصلحة المحضة لا تكون إلا في الجنة، والمفسدة المحضة لا تكون إلا في النار، أما عالم الابتلاء الدنيوي فهو مجال لا يتحقق فيه الصفاء الكامل، وإنما يُنظر فيه إلى الراجح، وإلى نتيجة المجموع، وإلى ما تؤول إليه العواقب. ولو أُلغيت كل مصلحة يداخلها شيء من المفسدة، لبطلت شرائع كثيرة، وعلى رأسها فريضة الجهاد التي جاء الشرع بتقريرها وتنظيمها.
فالجهاد – بطبيعته – تترتب عليه مفاسد: قتلٌ وجراحٌ وتهجيرٌ وأسرٌ وضيقٌ في المعاش، لكن هذه المفاسد المحتملة لا تقارن بالمفسدة العظيمة التي تقع بترك الجهاد بالكلية: مفسدةُ الاحتلال الدائم، وضياعُ الدين، وانهيارُ الكرامة، وابتلاعُ الأرض، وتحوّل الأمة إلى غثاء لا وزن له. ولهذا جاءت النصوص الشرعية واضحة في أن مصلحة حفظ الدين والعرض والكرامة مقدّمة على مفسدة الخوف والألم والدمار العارض.
ويضرب المقاصديون مثالًا بليغًا للتعبير عن هذه الحقيقة، وهو مثال بتر العضو المصاب بالغرغرينا لإنقاذ الجسد كله. فالبتر في ذاته مفسدة: ألمٌ، ونقص، وقطع لجزء من البدن. لكنه – في الميزان الصحيح – مصلحة راجحة؛ لأنه يحفظ حياة الإنسان كلها، ويدفع عنه هلاكًا محققًا. وهكذا في سنن التدافع: قد يقع بعض الأذى، لكنه يُحفظ به أصل الوجود والهوية والدين والكرامة.
ومن هنا نفهم أن الشهادة – وهي أعظم ما يراه الناس خسارة – إنما هي في ميزان الشرع رفعة سامية لا يدانيها مقام بعد النبوة. فهي اختيار ربانيّ “ويتخذ منكم شهداء”، وهي مقامٌ كريم يُرافق الأنبياء والصديقين، وهي شفاعةٌ لسبعين من أهل الشهيد، وهي حياةٌ عند ربهم يُرزقون. فهي في ظاهرها فقدٌ وألم، لكنها في حقيقتها مصلحة أخروية راجحة تعلو على كل حسبة دنيوية.
وبهذا الميزان الشرعي ندخل إلى تقييم طوفان الأقصى؛ فلا نُغفل المفاسد الظاهرة، ولا نغرق في منافع قد لا تُدرك إلا بالعواقب، وإنما ننظر إلى الأمر بمنظار مقاصدي يردّ الأمور إلى أصولها، ويزن المصالح والمفاسد بميزان كشفه العلماء وهدت إليه النصوص؛ ميزانٍ يجعلُ حفظ الدين والكرامة والسيادة أصلًا محوريًّا تُوزن به بقية المعاني.
المحور الثاني: في بنية القوة الواعية التي صنعت طوفان الأقصى
لم يكن طوفان الأقصى حدثًا مفاجئًا من فراغ، ولا انفجارًا عاطفيًا لا يسبقه إعداد؛ بل كان حصيلةَ بناءٍ طويلٍ، وتراكمٍ هادئٍ اشتغلت عليه المقاومة سنواتٍ مديدةً في الخفاء، تُعدّ فيه ما استطاعت من قوة، ولو كانت في أعين الناس يسيرة. فمنذ أن انطلقت الحروب الأربع الكبرى على غزة قبل الطوفان، ثم حصار الأعوام الطويلة منذ سنة 2006، أدرك أهل غزة أن قواعد الصراع لم تعد تسمح بالقتال التقليدي ولا بالمواجهة المكشوفة، فانتقلوا إلى بناء القوة في عمق الأرض، حيث لا تصل يد العدو، ولا يبلغ أثر التدمير.
وهكذا نشأت مدينة الأنفاق التي غدت مضرب الأمثال في التخطيط والصبر والدهاء العسكري. لم تكن شبكةً بسيطة ولا ممَرّات ضيقة، بل كانت مدينةً كاملة تحت المدينة، ثم مدينة ثالثة تحت الثانية؛ حتى قيل: في غزة ثلاث مدن: غزة فوق الأرض، وغزة تحتها، وغزة ثالثة في أعماقها. هذه البنية التحتية الهائلة لم تُبنَ ترفًا، بل لضرورات البقاء، ولحماية المقاتلين، ولتوفير قاعدة انطلاق آمنة تُفوّت على العدو سلاحه الأكبر: سلاح التفوق الجوي والناري.
ومع أنّ الاحتلال دمّر كل ما فوق الأرض تقريبًا: المدارس، الجامعات، المستشفيات، الكنائس، المساجد، البيوت، والمؤسسات… فإنّ ما تحت الأرض ظلّ عصيًّا على التدمير، لم يملك العدو إليه سبيلًا إلا نزرًا يسيرًا، رغم ما استعان به من أجهزةٍ وخرائط وعتاد. وهذا وحده – في ميزان المقاصد – مصلحةٌ عظيمة لا تُقاس بحجم الخراب الظاهر؛ لأن قوة الأمة في صراعها لا تُقاس بالركام، بل بقدرتها على الاستمرار والعودة والانبعاث من تحت الأنقاض.
وقد مكّن هذا البناء العميق المجاهدين من أن تكون لهم قاعدةٌ يثوبون إليها ويرتحلون منها، وأن يخوضوا الحرب على نحوٍ غير مسبوق؛ ينتقلون تحت الأرض آمنين، ويظهرون فوقها لينفذوا عملياتهم من “مسافة الصفر”، كما اشتهر في أدبيات الطوفان، حيث اكتسبت المسافة الصفرية قيمةً ومعنى لم تعرفه المعارك من قبل.
ولم يكن هذا البناء المادي وحده ما صنع هذه القوة، بل واكبه بناءٌ آخر لا يقلّ أهمية: بناءٌ في الوعي، والعقيدة، والتعليم، والانضباط. فغزة هي البقعة الوحيدة في العالم التي تكاد الأمية تنعدم فيها؛ ونسبة حفظة القرآن فيها من أعلى النسب في الأرض كلها. وحين تتابعون مشاهد “صفوة الحفّاظ” في لحظات الرباط والبأس والصمود، تدركون أن هذا القرآن لم يكن كلمات تلوكها الألسن، بل كان وقودًا للإرادة، وموردًا للصبر، ومنبعًا للثبات، ومعينًا يمدّ المجاهدين بالمعنى الذي يجعلهم يتقدمون إلى الموت بقلوبٍ مطمئنة.
ولذلك كانت قوة غزة قوة مركّبة:
- قوة عسكرية تحت الأرض وفوقها
- قوة أمنية لا تُخترق
- قوة علمية وتعليمية ترفع الوعي
- قوة إعلامية تُدير الرواية
- قوة روحية قرآنية تُثبّت القلوب
حتى صار العدوّ – رغم ما يملك من أجهزة وأموال وجيوش – في موضع مرتبك، يرى أمامه قوة لا يفهم سرّها، ولا يُدرك مصدرها، ولا يستطيع أن يحطمها مهما أحرق الأرض وما فيها.
ثم إنّ هذا الإعداد لم يكن ترفًا ولا خروجًا لهوى، بل كان ضرورةً ملحّة فرضتها ظروف لم تعد تسمح بالصمت: تمدد التطبيع، استباحة المسجد الأقصى، حملات التقسيم الزماني والمكاني، طرد المرابطين والمرابطات، والاقتحامات اليومية التي صارت جزءًا من المشهد. كان المشهد العربي منهارًا، والمشهد الدولي أكثر انحيازًا من أي وقتٍ مضى، فكان لابد من صدمة توقظ العالم، وتعيد تعريف مكانة القدس وفلسطين في وجدان الأمة.
وهكذا جاء الطوفان، لا نزهةً مقاتلين، ولا مغامرةً متهوّرة، بل نتيجة قراءة دقيقة للواقع، ونتيجة يقينٍ أن الأثمان إذا لم تُدفع اليوم فستُدفع أضعافًا مضاعفة غدًا، وأن الاحتلال إن تُرك يتمدّد فسيمزّق القدس، وينهي القضية من جذورها، ويصنع شرقًا أوسط بلا فلسطين.
ولهذا كان هذا البناء – تحت الأرض وفوقها – إحدى أعظم المصالح التي حققها الطوفان قبل بدايته، إذ لولا هذا الإعداد لما أمكن لمجاهدٍ واحد أن يصمد ساعة واحدة أمام هذا الوحش المدجّج بالسلاح والدعم الدولي، ولانهار كل شيء منذ الأيام الأولى.
لقد أدرك العدو – وهو يرى هذه القوة المركّبة – أنّ الزمن الذي كان يحسم فيه جولة الحرب في ساعات قد انتهى؛ وأن ثمة أمةً صغيرة العدد، عظيمة الإيمان، تشبه في صبرها الأولين، وأن وراء هذا الصمود قيمةً تتجاوز الحسابات العسكرية إلى حسابات السنن الإلهية التي لا تُهزم.
المحور الثالث: في معنى الصمود والمعجزة واستمرار المقاومة رغم الإبادة والحصار
يخيّل إلى الناظر في ميزان القوة المادية أن ما جرى في غزة منذ السابع من أكتوبر لا يمكن تصوّره إلا في سياق الدول الكبرى والجيوش العظمى، لا في سياق قطاع محاصر ضيّق، يعيش فيه بضعة آلاف من المقاومين، ويخضع لحصار خانق منذ قرابة عقدين من الزمان. فحين ينظر العقل إلى حجم القوة العسكرية الصهيونية، والدعم الأمريكي والغربي اللامحدود، والتفوق الجوي والتكنولوجي والاستخباراتي، وإلى شبكة العلاقات الدولية التي تحرس الاحتلال ليل نهار، فإن النتيجة الطبيعية التي تصل إليها العقول هي استحالة الصمود، فضلًا عن القدرة على إيلام العدو، أو خوض معركة طويلة بهذا الحجم.
غير أنّ ما وقع على أرض غزة كان نقيض هذه الحسابات كلها؛ فقد وقفت المقاومة أمام أعتى قوة في المنطقة، فصمدت عامًا بعد عام، وشهرًا بعد شهر، حتى تجاوزت السنتين، وما زالت إلى يوم الناس هذا تُلحق بالعدو خسائر لم يعرفها منذ قيام كيانه. وقد اجتمعت على ضربها قوى العالم، من السلاح التقليدي إلى الإعلام الجائر، ومن الحصار إلى التجويع، ومن القتل إلى الإبادة، ومع ذلك بقيت جذوة المقاومة مشتعلة، وبقيت الضربات تتوالى على المحتل، حتى صار كثير من المحللين يصف هذا الصمود بأنه معجزة العصر، وإن كانت معجزات الأنبياء قد انقطعت.
وهذا الوصف – في ميزان المقاصد – ليس مبالغة، بل هو تعبير عن حقيقة شرعية وسنن إلهية ظاهرة؛ فمعجزة الطوفان ليست في خرق القوانين، بل في انتصار الضعيف بالإيمان على القوي بالبطش، وفي أن تتساقط الأقنعة عن دولٍ كانت تدّعي الإنسانية والعدالة، فإذا بها تهوي في اختبار الأخلاق سقوطًا مدويًا، وتنكشف أمام العالم بلا مساحيق. وبهذا الاختبار انقلب الطوفان من حدث عسكري إلى حدث حضاري، ظهر فيه الحق وانكشف فيه الباطل، وبرزت فيه الفطرة الإنسانية التي تعرّفت على الظلم بلا شرح، وعلى العدل بلا تعريف.
وقد تساءل كثيرون: كيف استطاعت المقاومة أن تصمد كل هذه المدة؟ كيف أحبطت آلاف الغارات، ونجت من التدمير الشامل، وأدارت المعركة في ظل انعدام الغذاء والدواء والماء والوقود؟ والجواب: لأن ميزان القوة ليس حديدًا وسلاحًا فحسب، بل هو في جوهره خليط من الإيمان، والوعي، والتصميم، والانضباط، وحسن توظيف القليل المتاح. فالقوة التي تملكها المقاومة ليست في عددها ولكنه في نوعية مقاتليها، وفي بنية تنظيمها، وفي صبرها، وفي قدرتها العجيبة على تحويل المحنة إلى منحة، والجراح إلى عزيمة.
ثم إنّ استمرارها لم يكن قرارًا عابرًا، بل كان استجابة لظروف سياسية محدقة، إذ كانت المنطقة كلها تمضي نحو تطبيع شامل، وكانت القدس تهوّد جهارًا، والمسجد الأقصى يهان كل يوم، وتُفرض عليه التقسيمات الزمنية والمكانية، وتُطرد منه المرابطات والمرابطون، وتُؤدى فيه الطقوس التلمودية على مرأى من البشر. كان كل شيء ينذر بأن القضية في طريقها إلى الإلغاء الكامل، وأن الضربة الأخيرة على لحمة الأمة قد أوشكت أن تقع. فجاء الطوفان ليعيد ترتيب المشهد كله، وليوجه رسالة للعالم بأن فلسطين ليست صفحة من الماضي، وأن القدس ليست تفصيلة هامشية، بل هي قلب الأمة ومركز هويتها.
إنّ ما تحقق في هذه المعركة ليس مجرد صمود، بل كسرٌ لهيبة المحتل التي ظلّت تتغذى عليها دعايته سبعة عقود. فقد اخترق المقاومون الحدود، وأسقطوا أسطورة “الجدار الذكي”، ونقلوا المعركة إلى عمق المستوطنات، وأسروا من العدو أعدادًا غير مسبوقة منذ النكبة، ليصبح لأول مرة في تاريخ الصراع الحديث أن يجد العدو نفسه أمام معضلة إنسانية وسياسية في ملف الأسرى لم يعرف مثلها من قبل. وهذا وحده نقلة استراتيجية لها تبعات كبرى على مستوى التفاوض والمستقبل السياسي للأرض المحتلة.
كما ألحقت المقاومة بالعدو خسائر بشرية ضخمة، لا تشبه الأرقام التي يعلنها إعلامه. فمنذ بدء الطوفان، كان العدو يفقد العشرات يوميًا، ولو حُسبت الخسائر بحدها الأدنى المتكرر لبلغت الآلاف، وهو رقم لا يقارن بما عرفته جبهاته منذ السبعينيات. وقد رأى الناس كيف تغيّر وجه الشارع الصهيوني: مظاهرات حاشدة، وانقسام سياسي مرير، وفقدان للثقة بالجيش والحكومة، وتزايد غير مسبوق في الهجرة المعاكسة، وانهيار لمعنويات المستوطنين الذين كانوا يتفاخرون بالأمن والاستقرار.
وهذه المشاهد كلها ليست ثانوية، بل هي في ميزان المقاصد مكاسب استراتيجية تعيد رسم مستقبل الصراع، وترهق بنية الاحتلال، وتستنزف قوته، وتفتح للأمة أبوابًا جديدة من الأمل والعمل، وتعلن أن طريق التحرير – مهما طال – ليس طريقًا مسدودًا، بل هو طريقٌ مضاءٌ بالإيمان، محفوفٌ بالتضحيات، لكنه ينتهي – بإذن الله – إلى فتح مبين.
المحور الرابع: في اختلال المعايير الدولية وسقوط أخلاق الغرب
من أعجب ما كشفه طوفان الأقصى، وأوضحته صور الإبادة اليومية، أنّ العالم الذي كان يتشدق عقودًا بقيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، قد سقط سقوطًا مدوّيًا في أول اختبار حقيقي تمسّ فيه هذه الشعارات شعبًا ضعيفًا لا يملك من القوة إلا إيمانه وصبره. فقد ظهر زيف هذه القيم في أشد صوره حين وقف الغرب المتحضر، ومعه دول كبرى لطالما رفعت راية الإنسانية، إلى جانب آلة القتل التي لم تُبقِ في غزة إنسانًا ولا حجرًا ولا أثرًا للحياة.
لقد تهاوت المنظومات الأخلاقية التي كانت أوروبا والولايات المتحدة تتغنى بها؛ فقد عجزت مؤسسات حقوق الإنسان كلها عن مجرد إصدار إدانة واضحة، لا للجريمة الكبرى فحسب، بل حتى للقتل العشوائي الذي طال النساء والأطفال والمرضى. لم نسمع صوتًا لمن كانوا يملؤون الدنيا صراخًا عن حقوق المرأة حين كانت المرأة الغزية تُقصف في بيتها، ولا رأينا حراكًا من مؤسسات حقوق الطفل حين كان الطفل يُنتزع من تحت الركام وهو بين الحياة والموت. بل إنّ جمعيات حماية الحيوان التي كانت تُقيم الدنيا لأجل قطة أو كلب، صمتت صمتًا مطبقًا أمام آلاف الحيوانات التي ماتت جوعًا وعطشًا تحت الحصار الخانق.
وهذا الصمت ليس تفصيلاً عابرًا، بل هو دليل على أنّ ما يسمّى “النظام الدولي” قد بُني على مصالح لا على مبادئ، وعلى ازدواجية المعايير لا على توازن القيم، وأنّ أوهام العدالة العالمية لم تكن إلا غطاءً لهيمنة الأقوياء وقتل الضعفاء. فالعالم الذي حارب لأجل أوكرانيا وتعاطف معها بلا تردد، لم يستطع أن يرى في غزة إنسانًا واحدًا يستحق الحياة، ولا طفلًا واحدًا يستحق الماء والدواء والغذاء.
لقد كشف طوفان الأقصى للعالم أجمع أنّ الغرب الذي يرفع راية الديمقراطية وحقوق الإنسان هو ذاته الغرب الذي يمدّ الاحتلال بالسلاح، ويعطيه الشرعية، ويدافع عنه في كل محفل، ويغض الطرف عن جرائمه الموثقة بالصوت والصورة. رأى الناس كيف سقطت الأمم المتحدة في وحل العجز، وكيف أُفرغ القانون الدولي من محتواه، وكيف أصبحت الجمعيات الحقوقية تُدار بالانتقاء والتحيّز السياسي، لا بالمبدأ الإنساني العام.
وبهذا السقوط، لم يعد السؤال: لماذا يقتل الاحتلال؟ فهذا من طبيعة المعتدي. بل صار السؤال الأكبر: لماذا صمت العالم؟ ومن الذي أعطى المحتل هذا الغطاء الأخلاقي والسياسي ليقتل بلا حساب؟ وهذه الأسئلة لم تبقَ بين العرب والمسلمين فحسب، بل صارت تُطرح في الجامعات الغربية، وفي الصحافة الحرة، وفي أوساط الفكر المستقل، وخرجت مظاهرات في شوارع أوروبا وأمريكا بأعداد لم تعرفها هذه المدن من قبل، تُعلن أنّ القضية لم تعد سياسية فحسب، بل أصبحت قضية أخلاقية كبرى فضحت تهافت الحضارة الحديثة حين تُختبر أمام المظلومين.
وقد كان لطوفان الأقصى فضل كبير في إيقاظ الضمير الإنساني؛ إذ لم يعد المتضامنون من المسلمين وحدهم، بل رأينا آلافًا من المسيحيين واليهود والأحرار، وأساتذة جامعات، ورجال فكر، ومتخصصين في القانون الدولي، يقفون إلى جانب فلسطين ويرفضون هذا السقوط الأخلاقي الجارف. ورأينا صحفيين يطردون من أعمالهم لأنهم قالوا كلمة حق، وأساتذة يُفصلون من جامعاتهم لأنهم دافعوا عن طفل غزي، وطلبة يُلاحقون لأنهم تضامنوا مع شعب يُباد أمام أعين العالم.
وهكذا أصبح طوفان الأقصى لحظة انكشاف عالمي، تُعاد فيها قراءة الحضارة الغربية على ضوء سلوكها، لا على ضوء شعاراتها؛ إذ أثبتت الأحداث أنّ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان قيمٌ تُطبّق حين تخدم المصالح، وتُدفن حين تتعارض معها. وهذا الانكشاف – في ميزان المقاصد – ليس خسارة، بل هو من أعظم المكاسب؛ لأنه يُسقط الأقنعة، ويفضح الباطل، ويُعيد بناء الوعي العالمي على أساس الحقيقة لا الوهم.
بل إنّ هذا الاختبار المرير قد حرّك فطرة الناس في أنحاء العالم؛ فدخل المئات – بل الآلاف – في الإسلام بعدما رأوا مشاهد الصبر والرضا والثبات على الحق، وسألوا أنفسهم عن سر هذه الروح التي لا تنكسر رغم الألم. رأينا من أسلم على متن سفينة “أسطول الصمود”، ورأينا من دخل الإسلام في السجون الإسرائيلية نفسها، ورأينا من أعلن إسلامه في قلب أوروبا تأثرًا بما رأى من صبر أهل غزة. وهذه الهزّة الروحية العالمية ليست تفصيلاً؛ بل هي من عميق آثار الطوفان التي تعيد للأمة ثقتها برسالتها.
وبذلك تحول طوفان الأقصى إلى مرآة كبرى يرى العالم فيها صورته الحقيقية: الظالم يرى ظلمه، والعادل يرى عدله، والمنافق يظهر نفاقه، وأما الأمة فإنها ترى من خلاله وجهها الأصيل الذي حاولت عقود الدعاية تشويهه؛ فإذا بها تجد نفسها أمام حدث يعيد لها بوصلة الوعي، ويجعلها تدرك أنّ قوتها ليست في عددها ولا في عتادها، بل في هويتها ورسالتها ورباطها بالأرض المقدسة.
المحور الخامس: في تمايز الصفوف، وانكشاف المواقف، وتجدد مفهوم الجهاد والرباط
من أبرز ثمار طوفان الأقصى – وأعمقها أثرًا في وعي الأمة – أنّه أعاد رسم الخريطة الأخلاقية والفكرية للعالم الإسلامي وللمشهد الدولي بأسره، فتميّزت الصفوف، وانكشفت المواقف، واتّضح للناس ما كان يخفى عليهم من تناقضات وتلوّنات. لقد كشف الطوفان عن حقيقة كل جهة: فبان العالم من العالم، وبان العالم من الجاهل، وانفصلت راية القرآن عن راية السلطان، وسقطت كل الأقنعة التي كانت تُلبس على الناس وجوهًا ليست لها.
ومع هذا التمايز الكبير، تبيّن للناس أنّ كثيرًا ممن كانوا يُعدّون من أهل العلم والفتوى لم يكونوا سوى أبواق للسياسة، يدورون مع السلطان كيفما دار، ويتبنّون خطابًا لا يمتّ إلى الشريعة إلا بقدر ما يُرضي الحاكم ويبرّر ظلمه. وفي المقابل ظهر علماءُ آخرون صدعوا بالحق، ووقفوا مع المظلومين، ودافعوا عن المقاومة، ولم يخشوا في الله لومة لائم. وهذا التمييز بين “عالم السلطان” و”عالم القرآن” لم يكن ليظهر بهذا الوضوح لولا هذا الامتحان العظيم الذي امتحن الله به الأمة.
كما أظهر الطوفان تمايز الصفوف على مستوى الجماعات والتيارات والأنظمة؛ فمنها من وقف صراحةً مع الاحتلال، ومنها من ساوم وباع، ومنها من صمت خوفًا أو تواطؤًا، ومنها من حمل راية النصرة والدعم، رغم ضعف إمكاناته وقلة حيلته. وهذا التمايز سنة ربانية ماضية، قال تعالى: “مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ”. وقد شاء الله أن يكون الطوفان أداة فرز كبرى؛ لا نفرز بها نحن الناس، ولكن يفرز بها التاريخ من يستحق الذكر، ومن يُلقى في مزبلة النسيان.
ولم يقتصر التمايز على النخب، بل امتدّ إلى مستوى الشعوب؛ فرأينا في العالم العربي والإسلامي – بل وفي العالم الغربي أيضًا – ملايين الناس يخرجون طلبًا للعدالة، تضامنًا مع غزة، ورفضًا لظلم الاحتلال. وفي الوقت ذاته، رأينا فئات أخرى تُساق وراء الدعاية، أو تتنصل من مسؤولياتها الأخلاقية، أو تغرق في الخوف والتأويلات الواهية. وكان لهذا المشهد أثرٌ كبير في إعادة تعريف “هوية الأمة”، وبيان أنّ الشعوب – رغم كل ما فُرض عليها من تجهيل وتخويف – لا تزال تحمل في أعماقها جذوة الحق، وأنها إذا اختبرت ظهر معدنها الأصيل.
وقد جدّد الطوفان مفهوم الجهاد في الوعي المعاصر، بعد أن حاولت قوى كثيرة – سياسية وإعلامية وفكرية – أن تطمس هذا المفهوم، أو تجعل منه تهمة تُلاحق كل من يدافع عن أرضه وعرضه ودينه. فانبعثت مفردات الجهاد، والشهادة، والرباط، والمقاومة، والكرامة، من جديد في خطاب الأمة، وصارت تتردد على ألسنة المسلمين وغير المسلمين، بعدما كانت تُعتبر كلمات محرّمة أو محظورة. لقد أحيى الطوفان الروح التي كادت أن تموت، وجعل الناس يرون معنى التضحية بأمّ أعينهم، لا في الكتب والمدونات التاريخية، بل في الواقع اليومي وأمام الشاشات.
كما ظهر أثر هذا الإحياء في التحول النفسي العميق الذي أصاب الأمة؛ إذ عاد للناس وعيهم بأن النصر لا يكون بالأمنيات، ولا تتحقق العزة بالدعة والاستكانة، وأنّ الحرية لا تُنال بالتوسل أو بالمفاوضات وحدها، وإنما تُنتزع انتزاعًا بالدموع والعرق والدماء. فها هو شعب غزة، الذي رأى الناس فيه نماذج العطاء الكامل، يُقاتل وبيته مهدّم، ويقاوم وطفله بين يديه جريح، ويبتسم وهو يودّع أحبته، ويكبر وهو يرى الموت يقترب منه. هذه الروح لم تكن لتولد إلا في بيئة رباط، ولا في أرض بُوركت من السماء، ولا تحت راية قضية عادلة يرخص في سبيلها كل شيء.
وكان من أعظم مظاهر التجدد الروحي أنّ الطوفان فتح للأمة بابًا لتجديد الثقة بالوعد الإلهي: “وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ”. فكلما اشتدّ القصف ازداد الناس يقينًا، وكلما عظمت المحنة، ازدادت الأمة إيمانًا أن وراء هذا البلايا معنى أكبر من المشهد الظاهر. لقد رأى الناس بأعينهم كيف تحققت سننية التمايز، وسننية المدافعة، وسننية الابتلاء، وكيف خرج من رحم هذه السنن وعيٌ جديد، وإرادة جديدة، وتحالفات أخلاقية جديدة على مستوى الشعوب، لا على مستوى الأنظمة.
بهذا المعنى صار طوفان الأقصى مدرسة كبرى تعيد للأمة تعريف نفسها، وتعيد للحق صوته، وللجهاد معناه، وللرباط مكانته، وللقيم منزلتها. صار امتحانًا يُظهر المؤمن من المنافق، ويكشف المخلص من المدّعي، ويردّ الناس إلى حقيقة كانوا ينسونها أو يتغافلون عنها، وهي أن الطريق إلى العزة لا يكون إلا بالتضحيات، وأن النصر ليس وعدًا بلا ثمن، بل وعدٌ مشروط ببذل ما في الوسع، وبالثبات حين تنقطع الأسباب.
المحور السادس: في الأثر الإيماني والمعنوي لطوفان الأقصى ورفع معنويات الأمة
كان من أعظم آثار طوفان الأقصى، وأعمقها رسوخًا في وجدان الأمة، ذلك البعث الروحي الذي عمّ أرجاء العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه؛ فقد جاء الحدث في لحظة كادت فيها الأمة أن تستسلم لجراحها المتراكمة، ولليأس الذي بثّته سنوات الضعف الطويلة، وللسكون الذي صنعته الأنظمة المتهالكة، والدعايات المنسقة، والأعمال القاتلة للروح والمعنى. فجاء الطوفان كنفخة حياة جديدة، تعيد للأمة إحساسها بذاتها، وتوقظ فيها ما نام، وتستدعي من أعماقها ما كان خافتًا تحت ركام الواقع.
لقد رأى المسلمون – لأول مرة منذ عقود طويلة – إرادة صلبة تتجسّد أمام أعينهم، وإيمانًا حيًّا يمشي على الأرض، وعزيمةً لا تُهزم، وصبرًا يصعب وصفه أو تفسيره إلا بكونه من مدد السماء. كم من المشاهد دخلت القلوب دون استئذان: رجل يودّع أسرته قبل القصف وهو يقول بثبات: “يا رب تقبّل”، وأمّ تُخرج ابنها من تحت الركام وهي تحمد الله، وطفل فقد أبويه، لكنه يرفع إصبعه بالتكبير وهو يبتسم. هذه المشاهد لم تكن أخبارًا، بل كانت دروسًا إيمانية حيّة تُعيد تشكيل الضمير الجمعي للأمة، وتحرّك في النفس حرارة كان الغبار قد غطّاها.
وليس سرًّا أن الطوفان رفع معنويات الملايين، بل أعاد تعريف القوة عند الأمة؛ فلم يعد المسلمون يرون القوة في جيوش الجرّ والعتاد، بل رأوا أنها قد تكون في طفل يركض بثبات، أو في مجاهد يخرج من نفقه كأنه خارج من محراب صلاة. رأوا أن السلاح الحقيقي ليس الدبابة، بل القلب الذي يعرف طريقه إلى الله. وهذا التحوّل ليس معنويًا فقط، بل هو تحوّلٌ في ميزان الوعي، يعيد للأمة ثقتها بأن النصر ممكن مهما طال ليل الهزيمة.
ومن علامات هذا البعث الروحي أنّ الطوفان ألهب القلوب في مشارق الأرض ومغاربها، فامتلأت الشوارع بالمتظاهرين، وتحرّكت المساجد بالدعاء، وارتفعت أصوات الشباب في الجامعات الغربية يطالبون بالحرية والعدالة. ولم يكن هذا الحراك مقتصرًا على المسلمين؛ بل كان بين هؤلاء المتظاهرين أناس من كلّ دين، ومن كلّ خلفية فكرية، جاءوا مدفوعين بفطرة إنسانية أنكرت الظلم حين رأته واضحًا لا لبس فيه. وهذا في ميزان المقاصد فتحٌ جديد، إذ تتحول القضية من همّ محلي إلى وجدان عالمي، وتتحول فلسطين من جغرافيا محتلة إلى مبدأ إنساني شامل.
وما زاده أثرًا وعظمة أنّ هناك من دخل الإسلام بسبب ما رأى من ثبات أهل غزة وصبرهم؛ فقد أعلنت مئات الحالات إسلامها في أوروبا وأمريكا، وسمع الناس حكايات من أسلم على متن سفينة “أسطول الصمود”، بل ومن أسلم وهو في الأسر داخل سجون الاحتلال بعدما رأى أخلاق المجاهدين، ومعدنهم، ورحمتهم، وصلابتهم في الحق. وهذا البعد الدعوي ليس تفصيلاً، بل هو دليل على أن الله يفتح بالدّم ما لا يُفتح بالكلام، ويوقظ القلوب بما لا توقظه الدروس النظرية.
كما أحدث الطوفان أثرًا هائلًا في نفوس الشباب؛ إذ عادوا يسألون عن معنى النصرة، وعن معنى الانتماء، وعن واجبهم تجاه فلسطين، وتجاه الأمة، وتجاه قضايا الحق عمومًا. رأينا شبابًا يغامرون بأرواحهم ليتسللوا إلى جبهات العدو، وشبابًا آخرين يضحون بمستقبلهم الأكاديمي من أجل كلمة حق، وآخرين يهبّون للإنفاق والدعم والتطوع، كلٌّ على قدر سعته. وهذا كله يدلّ على أنّ القضية لم تعد في وادٍ، والأمة في وادٍ آخر؛ بل عادت لتكون قضية حيّة تعيش في الوجدان وتحرّك العزائم.
ولعل أجمل ما ولّده الطوفان في النفوس أنه أعاد للأمة يقينها بأن التضحية ليست عبثًا، وأنهم إن بذلوا وجدوا، وإن صبروا ظفروا، وأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. عاد الشعور بأنّ طريق التحرير ليس مستحيلًا، وأنّ العدو ليس قوة مطلقة كما كان يتخيل الناس، بل هو قوة واهنة تنهار حين تتعرض للحق الصلب. عاد الشعور بأن الأمة ليست متفرقة كما تبدو، وأنّ تحت هذا الركام أمةً تنبض، قادرة على النهوض، وإن طال الزمان.
بهذا المعنى أصبح طوفان الأقصى ليس حدثًا سياسيًا أو عسكريًا فحسب، بل نهضة روحية، وعودة إلى معنى العزيمة والإيمان، وتجديدًا للعهد مع الله بأنّ الأمة لا تموت، وأن غزة إنما كانت مرآةً تعكس وجه الأمة الحقيقي؛ الوجه الصابر، المؤمن، العنيد في الحق، الذي لا يلين ولا ينكسر مهما اشتدت المحن.
المحور السابع: في المكاسب الاستراتيجية العسكرية والسياسية لطوفان الأقصى
لم يكن طوفان الأقصى مجرّد صرخة غضب أو حالة انفعال ظرفي، بل كان نقطة تحوّل استراتيجية في تاريخ الصراع، أعادت تعريف القوة، وكشفت هشاشة المنظومة العسكرية الصهيونية، وأسقطت أوهامًا رسّختها الدعاية الإسرائيلية سبعين عامًا، فأصبحت جزءًا من الوعي العالمي والعربي. وقد جاءت مكاسب الطوفان على مستويات متعدّدة: عسكرية، وأمنية، وسياسية، ونفسية، واستراتيجية، تكشف في مجموعها أن الحدث لم يكن مغامرة، بل خطة دقيقة ضربت العدو في أضعف نقاطه.
أول هذه المكاسب كان اختراق الحدود التي ظل الاحتلال يفاخر بأنها منيعة لا تُخترق. فقد أسقط المقاومون “أسطورة الجدار الذكي”، ودخلوا إلى عمق المستوطنات بسرعة أربكت الجيش الإسرائيلي، وأفقدته السيطرة على المشهد في الساعات الأولى. لقد رأى العالم أن الجدار الذي كُلّف المليارات، والمستند إلى أحدث وسائل التكنولوجيا والاستشعار والرادار، لم يصمد أمام أدوات مقاومة بسيطة، لكنها محسوبة بدقة، ومسنودة بإرادة لا تلين. وهذا الانهيار وحده – في ميزان الاستراتيجيات – يعادل هزيمة استخباراتية كبرى كان لها ما بعدها في كل أجهزة الأمن العالمي.
ثم جاء ملف الأسرى ليضرب العدو في نقطة ألِمٍ لم يعرف مثلها منذ قيام كيانه؛ فقد لم يسبق، منذ عام 1948 إلى يومنا هذا، أن تمكّنت المقاومة من أسر هذا العدد الكبير من الجنود والمستوطنين دفعة واحدة، ولا أن احتجزت بينهم ضباطًا وجنودًا يحملون أسرارًا أمنية وعسكرية حساسة. وهذه الورقة الثمينة أحدثت زلزالًا في البنية النفسية والسياسية للكيان، وفتحت بابًا جديدًا من القوة التفاوضية التي قد تفضي إلى تبييض السجون الصهيونية بالكامل، وإطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين عانوا عقودًا خلف القضبان.
وفي الجانب العسكري، سجّل الطوفان رقمًا غير مسبوق في الخسائر البشرية للعدو؛ فمع أن الإعلام الصهيوني يخفي الأرقام الحقيقية، إلا أن التقارير اليومية، وحجم الجنازات، وشهادات جنود الاحتياط، تؤكد أن العدو فقد في الشهور الأولى وحدها من القتلى أكثر مما فقد في حروبه السابقة مجتمعة خلال عقود. ولو حُسب الحد الأدنى المعلن من قتلى العدو على مدار أكثر من 700 يوم، لبلغت خسائره الآلاف، بل ربما تجاوزت عشرة آلاف قتيل. وهذه الخسائر، في البنية العقائدية الصهيونية، ضربة قاتلة لا تُقاس بالعدد فحسب، بل بما تتركه من آثار على الروح المعنوية للمستوطنين، وعلى مستقبل التجنيد الإجباري، وثقة المجتمع بجيشه.
أما على المستوى الاستراتيجي، فقد فقد الاحتلال هيبته العسكرية التي طالما روّجها؛ لم يعد في نظر العالم “الجيش الذي لا يُقهر”، بل أصبح جيشًا مرتبكًا، مضطربًا، يفقد جنوده في كل يوم، ويغرق في حرب مدن لا يجيدها، ويحتاج إلى تدخل أمريكي مباشر في كل تفصيلة من تفاصيل المعركة. لقد انكسر عمود الدعاية الصهيونية أمام عيون العالم، وصار الاحتلال يُحارب لا ليحسم، بل ليُثبت لجمهوره أنه ما يزال موجودًا.
وإلى جانب ذلك، أحدث الطوفان اهتزازًا عميقًا في الجبهة الداخلية الصهيونية؛ خرجت احتجاجات واسعة، وظهرت الانقسامات السياسية على السطح، وتبادلت النخب الاتهامات، وفقد الجمهور ثقته بالحكومة والجيش، وبرزت موجة هائلة من الهجرة المعاكسة، حيث أُغلق باب الدخول إلى فلسطين المحتلة، وصار الخارج منها أكثر من الداخل إليها، وهي ظاهرة لم يشهدها الكيان بهذه الحدة من قبل. وهذا التراجع الديمغرافي ليس تفصيلاً، بل هو في ميزان الاستراتيجيات بداية تفكك حقيقية في مشروع الاحتلال.
كما أثّر الطوفان في الاقتصاد الصهيوني تأثيرًا بالغًا؛ توقفت السياحة التي كانت رافدًا كبيرًا للدخل، وتقلّصت الاستثمارات، وارتفع الإنفاق العسكري إلى مستويات خانقة، وازدادت خسائر الشركات الكبرى، وأصبح الاحتلال يعيش حالة استنزاف مالي لم يمرّ بها منذ عقود. وهذه الخسائر الاقتصادية لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بآثارها على المجتمع الذي بدأ يشعر بأن الكيان، الذي كان يعدهم بالأمن والرفاه، لم يعد قادرًا على توفير أبسط مقومات الاستقرار.
ومن أعظم المكاسب أيضًا أنّ الطوفان فرض نفسه ك- قضية مركزية على طاولة العالم؛ لم يعد بالإمكان تجاوزه أو تطويقه أو إهماله. أعاد تعريف الموقف الدولي، وفتح ملفات الحقوق الإنسانية من جديد، وجرّأ الشعوب على السؤال، وحرّك منظمات في الغرب نفسه أصبحت تفتح ملفات الاحتلال وتنتقد ممارساته علنًا، بعدما كان ذلك من المحرمات السياسية والإعلامية. لقد أجبر الطوفان العالم على مراجعة سردية الصراع التي هيمنت لعقود، وعلى رؤية الفلسطيني لا كضحية صامتة، بل كفاعل قادر على تغيير المعادلة.
وبهذا المعنى تتبين قيمة الطوفان: فهو ليس مجرد معركة في جغرافيا ضيّقة، بل تحوّل استراتيجي أعاد تشكيل المشهد السياسي والعسكري والنفسي في فلسطين والمنطقة والعالم. أظهر أنّ الاحتلال ليس قدَرًا محتومًا، وأنّ الأمة، مهما ضعفت، تملك قدرة كامنة يمكن أن تفاجئ أعتى القوى، وأن التاريخ لا يُكتب بقوة الحديد وحده، بل بقوة العزيمة والإيمان، وحسن قراءة اللحظة.
المحور الثامن: في البعد الحضاري والدعوي لطوفان الأقصى ودخول الناس في الإسلام
من أعجب ما أظهره طوفان الأقصى من آثارٍ ممتدة تتجاوز حدود السياسة والعسكر، ذلك البعدُ الحضاري العميق الذي أعاد تعريف صورة الإسلام في الوعي الإنساني، وأعاد تقديم نموذجٍ أخلاقي وروحي حيّ يجعل الحقّ واضحًا بلا شرح، والباطل مكشوفًا بلا بيان. لقد تحوّل الطوفان، بما فيه من صبر وثبات وإقبال على الموت في سبيل الحياة الكريمة، إلى خطاب دعوي مفتوح، يصل إلى قلوب الملايين بلغة الفطرة، ويدخل إلى العقول من أوسع أبوابها، دون حاجة إلى تنظير أو جدال.
فقد رأى العالم مشاهد لم يألفها من قبل: رجلٌ يفقد أسرته فيبتسم راضيًا بقضاء الله، وأمٌ تحتضن طفلها الشهيد وهي تسبّح وتحمد، ومجاهدٌ ينتظر الموت بطمأنينة من يعرف طريقه، وأطفالٌ يحفظون القرآن في الأنقاض، وشبابٌ يعودون إلى القتال بعد بتر أطرافهم. هذه المشاهد، التي لا يمكن اختلاقها ولا اصطناعها، صنعت صدمة أخلاقية لدى العالم، ودفعت كثيرين إلى إعادة التفكير في معنى الصبر، ومعنى الإيمان، ومصدر هذه الطاقة الروحية التي لا تفسير لها إلا الارتباط الوثيق بالله.
ولم يلبث أثر هذه الصدمة أن ظهر في الواقع؛ إذ بدأت تتوالى أخبار الداخلين في الإسلام، من مختلف الجنسيات والأعراق، في أوروبا وأمريكا وأمريكا اللاتينية وآسيا. دخل الناس في الدين لا لأن أحدًا دعاهم صراحةً، بل لأن الطوفان كان تعريفًا جديدًا بالإسلام من خلال أهله؛ تعريفًا يذكّر بمشاهد الصحابة الأوائل حين دخل الناس في دين الله أفواجًا وهم يرون سلوكًا يفوق الوصف. بل إن بعض الداخلين في الإسلام أعلنوا أنّ سبب هدايتهم المباشر هو مشاهد الثبات، وصوت التكبير من تحت الأنقاض، وصور الطمأنينة في عيون من يودّعون الدنيا وهم يبتسمون.
وقد بلغ هذا الأثر الدعوي مبلغًا كبيرًا لدرجة أننا رأينا من أسلم في أسطول الصمود وهو في طريقه إلى غزة، ورأينا من أسلم داخل السجون الإسرائيلية بعدما احتكّ بالمقاومين ورأى منهم أخلاقًا لم يتوقعها. ورأينا موجات من الطلاب الغربيين يتعرفون على الإسلام من خلال بوابة فلسطين، ويسألون عن معنى هذه الروح، وعن سرّ هذا الإيمان الذي لا ينطفئ.
وليس هذا البعد الدعوي حدثًا عرضيًا؛ بل هو امتداد طبيعي لرسالة الأمة التي شاء الله أن تبقى قائمة ما بقيت الحياة، تظهر حين تُختبر، وتُبعث حين تضيق الأرض بما رحبت. فالطوفان، وإن كان معركة مسلّحة، إلا أنه كان أيضًا معركة قيم؛ معركة بين أخلاق الرحمة وأخلاق الإبادة، بين ثقافة الحياة وثقافة القتل، بين حضارة تبني على الإيمان وحضارة تبني على الاستغلال والقوة العارية. وقد ساعد هذا الفرق الصارخ على إعادة تعريف الإسلام بصورة لم تكن الدعايات التقليدية قادرة على تحقيقها.
كما أحدث الطوفان تحولًا كبيرًا في الخطاب العالمي تجاه القضية الفلسطينية؛ فقد صار الحديث عن فلسطين مرتبطًا اليوم بمسائل الأخلاق العالمية، وبحقوق الشعوب، وبشجاعة الضعيف في مواجهة الظالم، وبنقاء الهدف الذي يحمل في طيّاته أسمى المعاني الإنسانية. وهذه العناصر ليست سياسية فقط، بل هي حضارية بامتياز؛ لأنها تعيد للعالم توازن الفطرة، وتذكّره بأنّ الظلم – مهما طال – لا يملك الشرعية البعيدة، وأنّ الحق، مهما ضُيّق عليه، يملك قدرةً عجيبة على البقاء والانتشار.
ولم يكن هذا الحضور الحضاري ليبلغ مداه لولا أنّ الطوفان حرك أحرار العالم، وخاصة الشباب، الذين وجدوا أنفسهم أمام امتحان أخلاقي واضح: إمّا أن يقفوا مع الحق، وإما أن يسقطوا في وحل الصمت. فاختار كثير منهم الوقوف في صف المظلوم؛ فخرجوا في مسيرات حاشدة في لندن ونيويورك وباريس وبرلين وجاكرتا وكوالالمبور وغيرها من عواصم العالم. رأينا الجامعات الأمريكية تُغلق بسبب اعتصامات طلابية رافضة للعدوان، ورأينا نقابات أساتذة، وعلماء قانون، ومفكرين كبارًا يفضحون جرائم الاحتلال بلا خوف.
وبهذا المعنى أصبح طوفان الأقصى حدثًا حضاريًا بامتياز؛ طهّر الوجدان العالمي من أوهام كثيرة، وردّ الناس إلى فطرتهم، وجعل القضية الفلسطينية ليست نزاعًا سياسيًا، بل مبدأ أخلاقيًا عالميًا يقف معه كل إنسان حر. ومن هنا تتضح القيمة الدعوية للطوفان، الذي أعاد الروح، وأيقظ القلوب، وفتح نافذة جديدة للحق في عالم أنهكته الأقنعة.
المحور التاسع: في التحولات الاجتماعية داخل غزة ووحدة الحاضنة الشعبية خلف المقاومة
من أهم ما كشفه طوفان الأقصى، وما تجلى في تفاصيله وآثاره، تلك القوة الاجتماعية الصلبة التي ظهرت في غزة، والتي بدت – رغم شدة الإبادة والقصف والتجويع – ثابتة كالجبال، محمولة على وعي جمعي ناضج يرى في المقاومة طريق الخلاص والكرامة، لا عبئًا ولا مغامرة عابرة. لقد كان المشهد الغزّي في جوهره تحولًا اجتماعيًا عميقًا، أثبت أنّ الشعوب حين تتعرض للاختبار الحقيقي تنكشف معادنها، ويظهر فيها ما كان دفينًا تحت طبقات الخوف أو التعب أو الضيق.
فقد بدت غزة، على ما فيها من جراح، أكثر وحدة من أي وقت مضى؛ وظهرت الحاضنة الشعبية للمقاومة بصورةٍ لا يستطيع الإعلام المنحاز أن يحجبها. رأينا رجالًا فقدوا أبناءهم وأزواجهم وبيوتهم، ثم ظهروا على الشاشات يقولون بكل ثبات: “لن نغادر أرضنا… نحن مع المقاومة… ولن نُهزم”. ورأينا نساءً يستقبلن الشهادة كأنها كرامة، ويمجّدن ثبات المقاتلين ويعتبرونهم أبناءهن، ويؤكّدن أن كل قطرة دم تُراق ليست خسارة، بل قربانًا من أجل الحرية والكرامة.
ورغم أنّ بعض الأصوات القليلة قد تعثرت أو تذمرت – وهو أمر طبيعي في سياق المعاناة الطويلة – إلا أن السياق العام كان يشير إلى التفاف واسع حول المقاومة، وإلى إيمان عميق بأنّ من يقاتلون في الأنفاق وفوق الأرض إنما يقاتلون نيابة عن الجميع. وقد رأى العالم هذه الحقيقة في شهادات لا تُحصى: رجل مسنّ يقف فوق ركام بيته ويقول: “المقاومة تاج رؤوسنا”، وأم تُشيّع أبناءها الثلاثة وهي تقول: “لو بقي لي ولدٌ آخر لأهديته للمقاومة”، وشابٌ فقد ساقه ويبتسم قائلاً: “سأعود إلى الجبهة بما بقي مني.”
هذه الروح الجماعية لم تكن وليدة اللحظة، بل هي حصيلة تاريخ طويل من الرباط، وصناعة للقيم عبر العقود، وتعليمٍ راسخٍ جعل القرآن غذاءً يوميًا، والمقاومة أفقًا نفسيًا، والكرامة ركيزة وجود. فغزة، كما يقول أهلها، ليست أرضًا تُسكن، بل رسالة تُحمل، وليست مجرد جغرافيا، بل هوية جماعية تشترك فيها آلاف العائلات التي تقاتل بوعي أن المعركة ليست معركة فصيل، بل معركة شعب بأسره.
ولعل من أقوى دلالات هذا التحول الاجتماعي تلك القدرة العجيبة لدى أهل غزة على إعادة تنظيم حياتهم وسط الموت؛ فقد كان الناس، في بعض اللحظات، يدرّسون أبناءهم رغم دمار المدارس، ويصلّون التراويح تحت القصف، ويُقيمون حفلات صغيرة لتحفيظ الأطفال ما تيسر من القرآن، وكأنهم يصرّون على أن الحياة لا تُهزم بالموت، وأن الروح لا تُكسر بالحديد والنار.
كما أظهر الطوفان أنّ المجتمع الغزّي لم ينهَر رغم فقدان مصادر الحياة الأساسية؛ فالتجويع والحصار والتعرية لم تكسر إرادته، بل جعلته أكثر إصرارًا على الثبات. ورأينا بأعيننا كيف كان الجوعى يقتسمون ما تبقى من طعام، وكيف كان الناس يتبادلون الماء، وكيف كان التكافل الاجتماعي يتقدم على كل حساب. وهذه الصورة – في ميزان مقاصد العمران الاجتماعي – من أعظم دلائل حياة الأمة وقدرتها على النهوض مهما اشتدّت المِحَن.
لقد نجح الطوفان في أن يجعل غزة محلّ اصطفاء إلهي ثلاث مرات: مرّة لأن الله اختارها رباطًا وميدان جهاد، ومرّة لأن الله اختار منها شهداء، ومرّة ثالثة لأن الله جعل لأهلها شفاعةً عنده؛ فما من بيت اليوم في غزة إلا وفيه شهيد أو جريح أو أسير، وما من أسرة إلا وقد قدّمت نصيبًا من روحها في سبيل الحق. وهذه الخصوصية الروحية أعطت المجتمع الغزّي مناعةً أخلاقية لا تُقاس بالمعايير الدنيوية، وجعلته قادرًا على احتمال ما لا يُحتمل.
وبهذا كله، تحوّلت غزة إلى نموذج اجتماعي فريد؛ شعبٌ تحت الإبادة، لكنه أكثر تماسكًا من شعوب تنعم بالأمن، وأمةٌ تُحرق بيوتها، لكنها ترابط على أبواب الكرامة، ومجتمعٌ يجرّب الموت في كل يوم، لكنه ما يزال يرى الحياة تستحق القتال. وهذا النموذج كشف للعالم أنّ الشعوب ليست كما يتخيّلها الإعلام: ليست مكسورة، ولا عاجزة، ولا خانعة، بل هي قادرة على الإبداع في قلب المحنة، وعلى اتخاذ الموقف الصحيح في اللحظة التي تُختبر فيها القيم.
المحور العاشر: في سنة الابتلاء وثمن العزة وضرورة التضحية في طريق التحرير
من السنن الكبرى التي يكشفها طوفان الأقصى بأبلغ صورة، أنّ طريق العزة لا يُعبّد بالأماني، ولا يُشقّ بالرغبات، ولا يُفتح بالحياد السلبي، بل هو طريقٌ تُضاء جوانبه بالدموع والعرق والدماء، ويُكتب فيه المجد بأقلام التضحية والفداء. فما من أمةٍ طلبت الحرية إلا ودُعيت إلى امتحانها، وما من شعبٍ أراد أن ينهض إلا وقُدم له الثمن قبل النتيجة. وهكذا غدت غزة – في هذه اللحظة التاريخية – شاهدًا حيًا على أنّ الابتلاء ليس علامة غضب، بل علامة اصطفاء، وأنّ الدماء التي تُقدَّم ليست خسارةً في ميزان السماء، بل مفاتيح تُفتح بها أبواب النصر.
لقد تعلّم المسلمون عبر التاريخ أن العزة لا تأتي رخيصة، وأنّ الله يمتحن عباده ليميز الصفوف، ويُطهّر القلوب، ويُربي النفوس على معنى الثبات. فما وقع للنبي ﷺ في بدايات الإسلام من قتلٍ، وتشريدٍ، وحصارٍ، وطردٍ من الوطن، إنما كان تمهيدًا لفتحٍ عظيم، ورفعةٍ لم تعرف لها البشرية نظيرًا. ففي مكة قُتل أصحابه، وفي شعب أبي طالب حُوصر ثلاث سنين، وفي الطائف دميت قدماه الشريفتان، وفي ليلة الهجرة خرج من وطنه مُكرهًا وهو يقول: “ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”. ومع ذلك، كانت كل تلك الابتلاءات صفحات ضرورية في كتاب النصر الذي خُتم يوم عاد فاتحًا مكبرًا، بعد سنوات من الصبر والجهاد.
وهذا السنن نفسه يتكرر اليوم في غزة؛ فما نراه من دماء الشهداء، ومن جراح المصابين، ومن دموع الأمهات، ومن أوجاع الحصار، ليس عبثًا، ولا فوضى بلا حكمة، بل هو امتحان يُراد به رفعٌ في الدرجات، وتصفيةٌ للصفوف، وتثبيتٌ للقلوب. ولولا هذه المحن لما ظهرت معادن الرجال، ولا تميّز الصادق من المدّعي، ولا قام الناس على الحق كما يظهرون اليوم. فالله – سبحانه – لا يمنح النصر قبل الامتحان، ولا يعطي التمكين قبل الابتلاء، ولا يضع التاج على رأس أمةٍ لم تختبر معنى التضحية.
وفي مشاهد غزة ما يدلّ بوضوح على أنّ الأمة لا تنال عزتها إلا بفداء، ولا تستعيد هيبتها إلا بصبر، ولا تصنع مستقبلها إلا حين توقن أن الثمن لا بد أن يُدفع. رأينا ذلك في الأطفال الذين يُشيّعون آباءهم بالشهادة، وفي النساء اللواتي يدفنّ أبناءهن وأزواجهن ثم يرفعن رؤوسهن بقولهن: “الحمد لله الذي شرفنا بالشهادة”. ورأيناه في الرجال الذين عادوا إلى الجبهات وقد بُترت أطرافهم، وفي الأسرى الذين خرجوا من السجون وقد ازدادوا ثباتًا ونورًا وصبرًا على طريقٍ يعرفون أنه طويل لكنه مُفضٍ إلى وعدٍ لا يخلفه الله.
والمتأمل في سنن التاريخ يدرك أن الشعوب التي صبرت على الابتلاء هي وحدها التي كتبت أقدارها بيدها؛ فالأمم التي ظنّت أن الحرية تُنال بلا ثمن، بقيت في أسرها. أما الأمم التي رأت في الألم طريقًا إلى الرفعة، فقد حققت ما لم تحققه الجيوش العاتية. وما فعلته غزة خلال السنتين الأخيرتين هو أنها أعادت للأمة درسًا قديمًا بطعمٍ جديد: أن لا تحرير بلا تضحيات، ولا كرامة بلا دماء، ولا نصر بلا صبر.
ولذلك صار طوفان الأقصى علامة فارقة في وعي الأمة؛ فقد أعاد إحياء الإيمان بأنّ ثمن الحرية لا يُدفع بالقليل، وأنّ الطريق إلى القدس لا يُختصر بكلمات ولا بخطب، بل يُمهّد بجراح، ويُعبد بصبر، ويُكتب بدماء الأنقياء الذين قدّموا أرواحهم بطيب نفس، وهم يوقنون أنهم يدفعون ثمنًا لا بد منه، وأنهم يُمهّدون لأجيال قادمة ستقف يومًا ما على عتبات النصر لترى ثمار ما زرعوا.
بهذا الوعي العميق أصبحت التضحيات التي يقدمها أهل غزة ليست مجرد دماء، بل أوقافًا كبرى للأمة، تُكتب باسمها في صحائف الخالدين، وتفتح لها بابًا إلى مستقبلٍ عزيز. فلا نصر بلا دماء، ولا حرية بلا صبر، ولا عزة بلا ابتلاء، ولا أمّة بلا شهداء. وهكذا تصنع الشعوب مستقبَلها حين تُقبل على البلاء بقلوبٍ مؤمنة، وتعلم أن ما يفقدونه اليوم هو فاتورة خلاص، وأن ما ينتظرهم – بإذن الله – أعظم مما يتصورون.
الخاتمة الجامعة: بين الامتحان والاصطفاء، وبين الفداء والوعد
إذا تأملنا طوفان الأقصى في مجمله، رأينا أننا أمام حدثٍ تتداخل فيه السياسة بالعقيدة، والعسكر بالمقاصد، والدمع بالبشرى، والابتلاء بالاصطفاء؛ فهو ليس جولةً من جولات الصراع فحسب، ولا معركةً كسائر المعارك، بل امتحان أمّة أراد الله أن يردّها إلى أصلها، ويبعث فيها ما خمد من روحها، ويعيد ترتيب أولوياتها على ضوء دماءٍ سالت في سبيل الكرامة.
لقد رأينا في هذه الملحمة كيف تتكوّن القوة من عناصر لا توجد في معسكرات الجيوش، ولا تُشترى بالمال: رأينا قوة الإيمان حين يتقدم على الحديد والنار، وقوة الإرادة حين تصنع من المستحيل طريقًا للنجاة، وقوة الوعي حين يزرع في القلوب يقينًا بأنّ العدل لا يُدفن مهما تعاظم الظلم. ورأينا كيف تتحوّل الأنفاق إلى مدائن، والركام إلى مدارس للصبر، والدموع إلى وقود يُحيي العزيمة، وكيف يصبح الفقد شهادة ميلاد جديدة لأمةٍ لم تمت.
ورأينا – أيضًا – كيف تتعرّى الحضارة الغربية حين تُختبر أمام المظلوم؛ فإذا بشعاراتها تتبخر، ومؤسساتها تُشلّ، وحقوق الإنسان التي طالما ملأت الدنيا ضجيجًا تُدفن تحت رماد غزة. ورأينا كيف يتحرك أحرار العالم، وكيف تفيض الفطرة الإنسانية بغير حساب، فيُسلم من يُسلم من العلماء والطلاب والناشطين، لا بدعوةٍ صريحة، بل بمشهدٍ من ثبات قلب لا يعرف الخوف.
وهكذا اجتمع للطوفان بعدٌ عسكريٌّ كسر هيبة الاحتلال، وبعدٌ سياسي أعاد ترتيب المشهد الدولي، وبعدٌ اجتماعي صهر الشعب الغزّي في بوتقة واحدة، وبعدٌ روحي بعث في الأمة يقينًا كاد يذبل، وبعدٌ حضاري قرّب الناس إلى الإسلام من أبواب الشهود، لا من أبواب الكتب.
ولم يكن كل ذلك ليحدث لولا سنّة الابتلاء التي بها يُرفع الناس أو يُمحقون. فالله يُمتحن عباده بما يُخرج خيرهم ويُسقط زيفهم، يهيّئ بالمحن منازل لا تُنال إلا بالدموع والدماء، ويرفع بالشهادة أقوامًا ما كانوا ليبلغوا منازلهم بغيرها. وما الدماء التي سالت في غزة إلا ثمن العزة التي ستشرق بإذن الله، وما الجراح إلا جسور للفتح الذي وعد الله به الصابرين.
ولذلك فإنّ طوفان الأقصى – في مجموعه – ليس كارثةً كما يراها البصر، ولا خرابًا كما يحسبه العدو، بل هو لحظة مخاض أمّة، ودليلٌ على أنها ما تزال قادرة على الولادة رغم آلامها، وأن جذوة الحياة فيها أبقى من أن تطفئها آلةُ قتل، أو يخمدها حصارٌ، أو يخونها قريب أو بعيد.
وما دام في الأمة من يقول بثبات: “لن نغادر أرضنا”، وما دام في أطفالها من يبتسم وسط الأنقاض، وما دام في شبابها من يذهب إلى الموت كمن يذهب إلى صلاة، فإنّ وعد الله آتٍ لا محالة؛ وعدٌ يُجريه على أيدي الصابرين، ويكتبه بدماء الشهداء، ويكشف به معادن الرجال، ويعيد للأمة عهدها القديم مع العزّة، ومع بيت المقدس، ومع الرباط الذي لا ينقطع إلى يوم الدين.
فطوبى للشهداء بما نالوا، وطوبى للمجاهدين بما ثبتوا، وطوبى لأهل غزة بما صبروا، وطوبى للأمة إذ بعث الله فيها من جديد روحًا كانت على وشك الانطفاء.
ونسأل الله أن يجعل هذه الدماء سُلّمًا للفتح، وهذه التضحيات بابًا للتحرير، وأن يُري هذه الأمة يومًا قريبًا ما وعد به عباده المؤمنين من نصرٍ وتمكين، والحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) كانت هذه كلمة ألقيتها في ندوة أقامها المركز العلمي للنظر المقاصدي في القضايا المعاصرة بالمغرب، وكانت أونلاين، بعنوان: “سنتان من طوفان الأقصى: التحولات والمآلات” بتاريخ يوم الثلاثاء 14 ربيع الثاني 1447هـ الموافق 07 أكتوبر 2025م، وقمت بتفريغها وتحريرها على هذا النحو.






اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *