د. عبد الصمد المساتي
مقدمة:
تتوقف حياة الإنسان عامة على المعرفة باعتبارها الأساس الذي يُستند إليه في تدبير مختلف الشؤون الحياتية، والقوة الأكثر فعالية للتصدي للمشكلات التي يواجهها، والسبيل الأنجع لإيجاد الحلول المناسبة لها، وقد ازداد التركيز على المعرفة في العصر الحاضر حتى أضحت المجتمعات المعاصرة تسمى بمجتمعات المعرفة والتقانة والمعلومات.
والمعرفة المرادة هنا هي تلك التي تجمع المتناثر والمتفرق من مختلف العلوم وتأخذ منها كفايتها، كما تجمع بين المعرفة النظرية والمعرفة التطبيقية، وليست تلك المعرفة الجزئية التي قد تصيب الإنسان بالحيرة والضياع لاختلافها من حقل لآخر، أو لارتباطها بمجال دون غيره، أو لكونها معرفة مجردة عن الواقع وبعيدة عنه، وهذا الجمع والتنسيق والتوحيد هو ما بات يعرف بتكامل المعرفة وإن حدث بمستويات متفاوتة.
وإذا كان من المعلوم بالضرورة في الشريعة الإسلامية أن طلب العلم فريضة عينية على كل مسلم ومسلمة، وكان الاجتهاد فرض كفاية لا يسقط عن الأمة إلا بقيام البعض به قياما يرفع الحرج والمشقة عن المسلمين، فإن مقصود ذلك وغايته هو تحصيل معرفة علمية متكاملة لمواجهة العديد من القضايا التي تواجه المجتمع الإنساني على مر العصور، والتي تتطلب منهجا تفاعليا وتكامليا في البحث والتفكير لكي تحقق مقصود الشارع في وضع الأحكام المناسبة والمحققة لمصالح الإنسان في العاجل والآجل.
وبناء على ذلك يصير التكامل المعرفي والمنهجي ضرورة شرعية لازمة في النظر الاجتهادي لا يقوم إلا بها، سواء في التقرير أو التنزيل، لأن النظر الاجتهادي متوقف على فهم الوقائع المستجدة والتغيرات التي تعرض للناس وتصورها، والنظر إلى النصوص الشرعية المرتبطة بها، وفهمها فهما عميقا، ثم ربطها بالواقع وأحوال الناس فيه للنظر فيما يمكن تنزيله من أحكامها، كل ذلك في تكامل بين معارف الوحي من جهة، ومختلف العلوم الأخرى الموصلة إلى حسن التنزيل من جهة أخرى، تحقيقا للغاية المنشودة، وهي تحقيق المقاصد الكلية التي جاءت الشريعة الإسلامية لأجلها.
من هنا فإن هذه الدراسة تروم بيان أهمية وضرورة التكامل المعرفي والمنهجي لاستيعاب مختلف تلك الوقائع وغيرها فهما وتنزيلا، وأثر هذا التكامل في فهم وتنزيل النص الشرعي، مع التدليل على ذلك بنموذج من القضايا المعاصرة.
أولا: التكامل المعرفي والمنهجي وتحقيق المقاصد الشرعية للأحكام
التكامل المعرفي والمنهجي كما عرفه الدكتور حسن فتحي ملكاوي: “قضية فكرية منهجية، من حيث إنها ترتبط بالنشاط الفكري وبالممارسة البحثية، وطرق التعامل مع الأفكار”[1]، وهو بذلك يستهدف بعدين: أحدهما إنتاجي، والآخر استهلاكي، “فالتكامل في بعده الإنتاجي صورة من صور الإبداع الفكري الذي يحتاج إلى قدرات خاصة، فمثلا التكامل بين معارف الوحي والعلوم الإنسانية والاجتماعية في صياغاتها الغربية المعاصرة، يحتاج إلى العالم الباحث الذي يستلهم هداية الله سبحانه في فهم مقاصد النصوص والأحكام، وكيفية تنزيلها على الوقائع والأحداث (…) كما يحتاج في الوقت نفسه إلى فهم الواقع الذي يتعلق بمجال معرفي معين، أو قضية محددة: اقتصادية أو اجتماعية أو تربوية… كما أو كيفا. وهذا يعني بالضرورة قدرة الباحث على تفكيك القضية وتحديد عناصرها وفهم آليات عملها وافتراضاتها النظرية الكامنة.
أما البعد الاستهلاكي من عملية التكامل المعرفي فيتعلق بتوظيف الأبنية الفكرية التي يقوم عليها التكامل في فهم الظواهر أو القضايا موضع الدراسة، وتمييز العناصر المميزة للمعرفة في إطارها التكاملي، وتسهيل نقل هذه المعرفة إلى الآخرين”[2].
بناء على هذا التحديد والتصور الضروريين -لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره- يتبين أن للتكامل المعرفي أهمية بالغة في تقرير الأحكام وتنزيلها على الوقائع المتغيرة في حياة الناس والتي تتوقف على إدراك وتحقيق المقاصد الشرعية سواء في التقرير أو التنزيل، وتظهر هذه الأهمية من خلال:
- دعوة الشريعة الإسلامية إلى الاجتهاد وتحصيل العلوم:
دعت الشريعة الإسلامية إلى وجوب التحصيل وطلب العلم، وفرضت على الأمة الاجتهاد فرضا لا يسقط عنها إلا بانتصاب أفراد منها لبحث الوقائع التي تعرض لها وبيان حكم الله فيها، بل وأوجبت على المجتهد منها -كما قرر الأصوليون- أن يبين للناس الحكم في وقت الحاجة إليه، وأنه لا يجوز له التأخير بالبيان حتى تنتهي الحاجة، حتى لا يكون للناس حرج في دينهم.
فالاجتهاد عنصر حيوي في الشريعة الإسلامية الغراء، بل هو عنصرها المحرك الذي تستمد منه نشاطها وملاءمتها لكل عصر وبيئة ومكان، ومن هنا كانت أهميته في الإسلام بالغة، ومكانته عالية، والحاجة إليه لازمة، ووجوده ضروري في كل عصر وزمان، وهو الضامن لاستمرارية الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وهو ما يؤكده الدكتور يوسف القرضاوي بقوله: “أن الشريعة الإسلامية قد وسعت العالم الإسلامي كله، على تنائي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية، وتجدد مشكلاته الزمنية، وأنها –بمصادرها ونصوصها وقواعدها- لم تقف يوما من الأيام مكتوفة اليدين أو مغلولة الرجلين، أمام وقائع الحياة المتغيرة، منذ عهد الصحابة فمن بعدهم، وأنها ظلت القانون المقدس المعمول به في بلاد الإسلام، حوالي ثلاثة عشر قرنا من الزمان وأنها إنما استطاعت أن تفي بحاجات كل المجتمعات التي حكمتها، وأن تعالج كافة المشكلات في كافة البيئات التي حلت بها، بأعدل الحلول وأصلحها، بما أودعها الله من مرونة عجيبة جعلتها تتسع لمواجهة كل طريف، ومعالجة كل جديد، بغير عنت ولا إرهاق”[3].
ولا شك أن الاجتهاد وبيان الأحكام المتعلقة بالقضايا والوقائع المستجدة يتطلب من المجتهد بذل الوسع في استقراء النصوص المتعلقة بها من قريب أو بعيد، وفهمها فهما دقيقا يمكنه من حسن تكييف الوقائع معها، فضلا عن معرفة حقيقة الواقعة وتصورها تصورا كاملا، وهو ما يدعوه إلى تحصيل المعارف والعلوم الأساسية والضرورية والاطلاع على علوم أخرى، بما يمكنه من الحد الذي يستطيع من خلاله استشارة أهل الاختصاص في دقائقها وتفاصيلها، وذلك ضمانا لتحصيل الفهم والتصور الصحيح والمناسب الذي يتطلبه تقرير الأحكام على الوقائع وحسن تنزيلها عليها.
والدعوة إلى تحصيل العلوم والمعارف والمناهج الضرورية للاجتهاد يحلينا في الفقه الإسلامي على الشروط اللازمة في المجتهد حتى يقبل اجتهاده ويصح، وهي شروط “معروفة ومفصلة في كتب أصول الفقه، منها: شروط علمية ثقافية، مثل: العلم باللغة العربية، والعلم بالكتاب والسنة، والعلم بمواضع الإجماع المتيقن، والعلم بأصول الفقه وطرائق القياس والاستنباط، والعلم بمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية (…) وأن يكون لديه ملكة الاستنباط (…) وأن يكون على معرفة بالناس، وعلى اطلاع بأحوال مجتمعه، وملما بالأصول العامة لثقافة عصره بحيث لا يعيش في وادٍ والمجتمع من حوله في وادٍ آخر، فهو يسأل عن أشياء قد لا يدري شيئًا عن خلفيتها وبواعثها وأساسها الفلسفي أو النفسي أو الاجتماعي فيتخبط في تكييفها والحكم عليها، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره (…). وهناك شرط آخر في المجتهد، وهو شرط ديني أخلاقي، وهو أن يكون عدلاً مرضيّ السيرة، يخشى الله فيما يصدر عنه، ويعلم أنه في فتواه في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يتبع هواه، ولا يبيع دينه بدنياه، فما بالك بدنيا غيره؟! فإذا كان الله تعالى قد اشترط العدالة لقبول الشهادة في معاملات الناس، فكيف بمن يشهد في دين الله، ويتحدث عن الله تعالى بأنه أحل كذا، وحرم كذا، وأوجب كذا، ورخّص كذا؟! “[4].
- تعقد وتشعب القضايا المستجدة والحاجة إلى تكامل الجهود في اجتهاد جماعي:
إن الناظر في الحياة المعاصرة يجد أنها قد تعقدت مشكلاتها وتشعبت قضاياها ووقائعها وتداخلت صورها وأحوالها ومآلاتها، نظرا للتطور السريع، والتحولات العميقة التي تشهدها، وكذا التخصصات الدقيقة التي تعرفها، وهو ما يتطلب من علماء الشريعة وفقهائها النظر فيها وتصورها التصور الصحيح، واعتبار خصوصياتها، والنظر إلى أحوال الناس الذين وقعت عليهم، واعتبار المآلات في النظر والحكم عليها، لتقديم الحلول الفقهية المناسبة لها، نظرا جماعيا، يتعاون فيه علماء الشريعة والمتخصصون في مختلف القضايا المعروضة؛ الطبية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
ولا شك أن الشروط السابقة للاجتهاد والتي أوردها العلماء عند الحديث عن المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع مسائل الفقه ونوازله، كما يضع الأسس العامة لاجتهاده، ويمهد القواعد، ويوجه الأدلة، كما كان الأئمة المجتهدون المتبوعون في القرون الأولى، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم، يتعذر التمكن منها جميعا في عصرنا الحاضر الذي تعقدت فيه القضايا، وتشعبت فيه المسائل، وصار من الصعب الاجتهاد في كل أبواب الفقه، بينما يمكن الاجتهاد والتخصص في بعض أبواب الفقه، فيتخصص هذا العالم في أبواب الفقه المتعلقة بالاقتصاد، ويتخصص الآخر ويجتهد في أبواب الفقه المتعلقة بالسياسة الشرعية، وآخر في التشريع الجنائي، وهكذا في جميع الأبواب، وهو ما يؤكد القول بتجزؤ الاجتهاد، و”هو القول الراجح عند الأكثرين”[5]، والذي يشبه إلى حد كبير ما عرفه عصرنا من أنواع التخصص الدقيق الذي يتصدى كل مجتهد لما يتقنه ويتمكن منه.
وهذا التجزؤ والتخصص في الاجتهاد يؤكد الحاجة إلى اجتهاد جماعي تتكامل فيه الجهود والتخصصات التي يسهل التمكن منها، بدل الانتظار لاعتماد جهد الواحد في بلوغ رتبة المجتهد المطلق، وتمكنه من جميع الشروط السابقة.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “وإذا قلنا بتجزؤ الاجتهاد كما هو رأي الأكثرين، فالأمر أسهل وأسهل. فهناك من العلماء من عكفوا على فقه الأسرة أو الأحوال الشخصية وتفرغوا له، وأتقنوه، ونفذوا إلى أعماق مسائله، فالاجتهاد في هذا المجال ميسور لهم بلا نزاع. وآخرون تفرغوا لفقه المعاملات المالية أو الجانب الاقتصادي في التشريع الإسلامي، وعنوا بكل ما يتعلق به أو بجانب معين منه، فهم أقدر على الاجتهاد فيه. وغيرهم اهتم بالفقه الجنائي أو الإداري أو الدستوري، فهم مجتهدون فيما تخصصوا فيه”[6].
ويقول الدكتور عبد المجيد السوسوه: “وإذا كان من أسباب حاجتنا إلى الاجتهاد الجماعي هو ما يقوم به من التعويض عن المجتهد المطلق، الذي تعذر وجوده في هذا الزمن، فهذا كلام صحيح، ولكنه لابد أن تتوفر في أعضاء الجماعي شروط المجتهد الجزئي كحد أدنى للقيام بالاجتهاد. وأيضًا فإن في المجلس الاجتهادي مجموعة من الأعضاء لا يشترط فيهم توفر شروط الاجتهاد، وإنما ينبغي فيهم أن يكونوا من الخبراء البارعين في تخصصاتهم المساعدة للعلماء المجتهدين، ويكون دورهم التكييف والبيان والتحديد الدقيق للقضايا محل الاجتهاد، ليسهلوا للمجتهدين فهم القضايا بشكل دقيق وسليم، واستنباط الحكم الشرعي المناسب، وليس لهم حق التصويت أو إبداء الرأي في الحكم الشرعي”[7].
وهو ما أكده الشيخ مولود السريري بعد أن بين أن الوقت المعاصر أصبح زمن التخصصات الدقيقة والمتعددة المعتمدة على المناهج العلمية التحقيقية، وأن العلوم الإسلامية محتاجة أكثر من غيرها إلى الاستفادة من تلك العلوم، لأنها تمس مواقع الوجود البشري لاتصافها بالسمة العلمية وارتباطاتها المباشرة بالواقع الإنساني، بقوله: “ولا ريب أن هذا أمر يحتاج تحقيقه إلى جهد جماعي متضافر عليه”[8].
- تغير الأحكام الشرعية، والحاجة إلى إعادة النظر في التراث الفقهي، تحقيقا للمصلحة:
من المعلوم عند طلاب الشريعة وفقهائها أن الأحكام الشرعية على نوعين: منها ما هو ثابت لا يتغير، ومنها ما هو متغير بحسب اقتضاء المصلحة، قال ابن القيم رحمه الله: “الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. النوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة”[9].
والمقصود بثبات النوع الأول هو ثبات الحكم في ذاته، أما الحكم المطبق في الواقع فقد يخالف النص إذا اقتضت المصلحة العدول عن الحكم الأول إلى غيره الذي هو أولى منه بالاعتبار في خصوص الواقعة النازلة بالناس، كما هو الشأن في عدول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن حكم القطع الثابت إلى عدمه لإعمال دليل أقوى منه وهو الحفاظ على النفس التي كانت مهددة بسبب المجاعة، فالتغيير هنا يكون في الفتوى، وليس في الحكم الشرعي؛ لأن الحكم ثابت لا يتغير، وإنما الذي يتغير هو الفتوى به حسب المقتضى الشرعي كما بين ذلك الإمام الشاطبي[10].
وقد بين الدكتور يوسف القرضاوي أن حاجتنا إلى الاجتهاد اليوم “لا ينحصر في دائرة المسائل الجديدة، بل له مهمة أخرى مع التراث الفقهي، لإعادة النظر فيه على ضوء ظروف العصر وحاجات الناس، لاختيار أرجح الآراء، وأليقها بتحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق، بناء على قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والإنسان”[11]، خصوصا وأن بعض الوقائع والأمور القديمة قد تطرأ عليها من الأحوال والأوصاف ما يغير طبيعتها أو حجمها أو تأثيرها، فلا يلائمها ما حكم به الأقدمون أو ما أفتوا به في شأنها، نظرا للتغير الهائل الذي دخل الحياة الاجتماعية بعد الانقلاب الصناعي، والتطور التكنولوجي، والتواصل المادي العالمي، الذي جعل العالم الكبير كأنه بلدة صغيرة[12].
وعقد الإمام ابن القيم لهذه القاعدة فصلا مهما؛ قال: “فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد”. ثم قال مبينا أهميتها، ومقررا المقصد الأعلى للشريعة الإسلامية ومنهجها: “هذا فصل عظيم النّفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة؛ أوجب من الحرج، والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه؛ ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله”[13].
ثانيا: أثر التكامل المعرفي والمنهجي في فهم وتنزيل النص الشرعي
لا يجادل باحث أو دارس للفقه الإسلامي في توقف فهم النصوص الشرعية على علوم ومناهج وقواعد لغوية وأصولية وإنسانية وكونية يستمد منها الناظر في ثنايا النصوص ويستثمرها ليقف عند ما تحمله من دلالات ومقاصد ظاهرة وخفية من أسرار الوحي قرآنا كان أو سنة، ويدرك مقصود الشارع من الأحكام التي جاء بها.
كما أن تنزيل الأحكام التي توصل إليها المجتهد بنظره وفقهه يحتاج إلى علوم أخرى اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية وغيرها مما يرتبط بموضوع النازلة/الواقعة، كل ذلك في تكامل معرفي ومنهجي يوصل المجتهد إلى تقرير الحكم المناسب وحسن تنزيله على تلك الوقائع.
وهو ما يدفعنا إلى الحديث في هذا المبحث عن أهمية هذا التكامل المعرفي والمنهجي في فهم النص الشرعي أولا، ثم عن أثره البالغ في التنزيل، وهو الأكثر ملحاحية في العصر الحاضر.
- أهمية التكامل المعرفي والمنهجي في فهم النص:
تتجاذب النص الشرعي معارف عديدة وعلوم وفيرة، يعضد بعضها بعضا، ويأخذ بعضها بأطراف بعض، ويضيء كل منها زاوية من زواياه ويكشف شيئا من خباياه، وقد جعل الشارع الحكيم في دعوته لتحصيل العلم والمعرفة العلوم كلها متعاضدة ومتكاملة ومتداخلة، ولم ينفر من أي علم؛ لأنه بتحقيق النظر لا يلفي الناظر أي تعارض أو تنافي بين ما نقل عن الوحي (النقل)، وما جاء عن طريق البحث العلمي (العقل)، لأن مصدرهما واحد وهو الحق سبحانه العليم.
وفي عالم اليوم الذي عرف نموّا أسّيّا للمعلومات والبيانات وأنتج كتلةٌ ضخمة من المعرفة، أدت إلى تقسيمها إلى حقول وتخصصات، من أجل التعامل معها، “وكلَّما زادت ضخامة هذه الكتلة لزم الاستمرار في التجزئة والتقسيم. هذه التجزئة المستمرة للمعرفة المتزايدة في النمو أنتجت أنظمة تربوية ومجتمعات مغرقة في التجزئة والتخصص الفرعي، وأنتجت بالتالي أفرادا يركزون بطريقة مبالغ فيها على أجزاء الحقيقة المختزلة، والراهنة، والمباشرة؛ ويفتقدون بطريقة متزايدة الوحدة التاريخية للصورة الكبيرة الكلية الأقل وضوحاً. وبعبارة أخرى في الوقت الذي أصبحنا فيه أناساً نعرف أكثر فأكثر عن الأشياء الأقل فالأقل، فإنَّنا في الوقت نفسه للأسف أصبحنا أناساً نعرف أقل فأقل عن الأكثر فالأكثر”[14].
والفقيه اليوم في الواقع المعاصر، الذي يعرف تطورا كبيرا في العلوم بقسميها الإنساني والطبيعي، وفي ظل التزايد المستمر للتجزيئ والتقسيم للحقول والتخصصات المعرفية مدعو إلى معرفة هذه العلوم لفهم النصوص الشرعية وإدراك مقاصدها، كما يحتاجها في بناء فتاويه واجتهاداته بناء على فهمه وإدراكه ذلك، “وإذا استعصت عليه هذه المعرفة كان من الواجب عليه الاستعانة بالعلماء المتمكنين بمجال تخصصهم”[15]، كما هو مدعو لتوظيف نتائج ومناهج مختلف تلك العلوم والمعارف، واستثمارها من أجل مقاربة النص الشرعس وفهمه، وإدراك مقاصده على نحو سديد.
- أثر التكامل المعرفـي والمنهجي فـي تنزيل الحكم الشرعي على الوقائع:
حيث إن تنزيل الحكم متوقف على حسن تصور الواقعة وتكييفها تكييفا فقهيا صحيحا، وفقه الواقع الذي حصلت فيه، واعتبار مآلات تنزيلها، فإنه يتعين أن نبين أهمية التكامل المعرفي في كل مرحلة من مراحل تنزيل الحكم السابقة الذكر، وذلك كالآتي:
- أثر التكامل المعرفي والمنهجي في تصوّر الوقائع:
إن الإقدام على الحكم في الوقائع المستجدة دون تصورها، والإحاطة بها من جميع الجوانب، يعد قاصمة من القواصم، إذ القصور والتقصير في فهم الواقعة وتصورها سبب في وقوع الخلل في المنهج، والخطإ في الحكم تبعا، ذلك أن جميع القضايا والمستجدات التي تحدث يجب أن تتصور أولا قبل كل شيء تصورا دقيقا؛ حتى إذا عُرفت حقيقتها، وشخصت صفاتها، وتصورها المجتهد تصورا تاما، بذاتها ومقدماتها وحيثياتها، كان تنزيل الأحكام الاجتهادية المبنية على ذلك أسلم وأقرب إلى المقصود الشرعي، وهو ما يجعل الاجتهاد التنزيلي يتصف بالواقعية؛ لارتباطه بالتصور الموضوعي “الذي ينطلق من النظر إلى الحقائق الاجتماعية من حيث أعراضها الطبيعية التي تمثلها جوانب الوجود الاجتماعي”[16].
ولا يمكن الوصول إلى التصور الصحيح والدقيق للواقعة إلا بتحصيل المجتهد لتكامل معرفي ومنهجي يؤهله لحسن التصور ومعرفة حقيقة الواقعة المبحوثة، وهل هي واقعة مفردة أم مركبة، منحصرة أم منتشرة، واقعة أم متوقعة، خصوصا إذا تعلق الأمر بمسائل المعاملات والعلاقات الإنسانية والاجتماعية، والقضايا الاقتصادية والمالية، وقضايا السياسة والحكم، وما يتعلق بالحقوق والواجبات للأفراد والجماعات[17]، والتي يغلب عليها التعقد والتشعب، كما يغلب عليها التغير والتبدل من حال إلى حال ومن مجتمع لآخر، ولذلك جاءت أحكامها عامة وكلية، تاركة التفصيل لمجتهدي الأمة في كل عصر لوضع الأحكام المناسبة.
- أثر التكامل المعرفي والمنهجي في تكييف الوقائع:
إن تكييف الواقعة تكييفا فقهيا صحيحا هو رديف التصور الصحيح للواقعة، بل إن التكييف لا بد منه للمجتهد حتى يحقق التصور الصحيح للنازلة مقصوده ومن ثم الحكم عليها بالحق أو الصواب[18]. فالتصوّر الصحيح للمسألة مرتبط بالتكييف الفقهي لها، كما أن التكييف شرط للحكم فيها وهو مقدمة للحكم، فحين يطرح الباحث عدة تكييفات للمسألة فكأنه يقلبها ليتبين وجهها ومن ثم يحكم عليها.
ولا شك أن عملية التقليب والتكييف هذه تقتضي من المجتهد بالإضافة إلى فقه النص وإدراك مقاصده باعتباره أول ما يجب على المجتهد النظر فيه للبحث عن الحكم الشرعي المناسب للواقعة، (تقتضي) معرفة وتمكنا منهجيا من القواعد والضوابط وكيفية إعمالها، ومعرفة طرق التخريج (سواء تخريج الفروع على الفروع، أو تخريجها على الأصول)، وكذا الرد إلى المقاصد الشرعية وغيرها من العلوم الشرعية والعلوم الخادمة لها، والموصلة إليها.
- أثر التكامل المعرفي والمنهجي في فقه الواقع وفقه أحوال المكلف:
فقه الواقع علم أصيل، تبنى عليه كثير من العلوم والأحكام، وفي ضوئه تتخذ العديد من المواقف المصيرية، ولذلك فإن مجتهد التنزيل مطالب باستيعاب حقيقة الواقع الذي يريد أن يطبق عليه الأحكام الشرعية المختلفة، وأن يكون هذا الاستيعاب شاملا لجميع جوانب الحياة وأحوال المكلفين فيها أسريا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا…
وتكمن أهمية الفقه بالواقع وفقه أحوال المكلف في عملية تنزيل الحكم الشرعي في أن التبصر بالواقع يتيح للفقيه أن يتبصر بأحوال الناس وبحاجاتهم وأعرافهم وقضاياهم المختلفة، فيكون تنزيله للحكم الشرعي مراعيا لتلك الأحوال والحاجات الطبيعية والأعراف الصحيحة المعتبرة، مما يؤدي إلى تحقيق مقصود الشارع في إقامة مصالح الناس ورفع الحرج والمشقة عنهم.
ولا شك أن ذلك متعذر دون تكامل معرفي ومنهجي يقوم على مقومين أساسين:
– سعة الاطلاع: بحيث يحتاج المجتهد إلى تكامل معرفي ومنهجي بين العلوم، سواء العلوم الشرعية كالعقيدة والفقه، أو العلوم الاجتماعية كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة كالسياسية والإعلام… وإذا قصر في أي علم من هذه العلوم أو غيرها مما يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلبا على قدرته على فقه الواقع، والحكم عليه.
– التجدد والاستمرار: فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة، والبحث في كل جديد، ومتابعة الأحداث، ودراسة أحوال الأمم والشعوب، فلو انقطع عنه فترة من الزمن أثر على تحصيله، وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها. وبخاصة في عصرنا الحاضر، الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة تتأثر بما حولها.
- أثر التكامل المعرفي والمنهجي في اعتبار المقاصد والمآلات:
إن إدراك حكم وعلل الأحكام الشرعية يعد أحد أهم مقومات الاجتهاد التنزيلي، لأن هذا الأخير يقوم في جوانب كثيرة معتمدا على المقاصد واعتبارها، ويتأثر بشكل ملحوظ برعاية المقاصد وتحقيقها، في أصوله وفي فروعه، في التقعيد وفي التفريع، في الفتيا، وفي تنزيل الأحكام على الوقائع، وفي قيام الأحكام الشرعية، تكليفية كانت أو وضعية، وفي الترجيحات الأصولية والفقهية، وغير ذلك من عمليات التشريع والاجتهاد.
كما يعد “اعتبار المآلات” من أمهات القواعد المعتمدة عند النظر في النصوص الشرعية بقصد العمل بها وتنزيها على محالها، لأن الشريعة وضعت لحكم وغايات في العاجلة وفي الآخرة، واهتمت بالوسائل الموصلة إلى هذه الحكم، بل جعلت لهذه الغايات أثرا في حكم الوسائل المفضية إليها. فيجب على المجتهد أن يقدر ما سيؤول إليه العمل بمقتضى الدليل أو النص
ويمكن الاستعانة هنا بما يسمى حاليا بعلم المستقبل أو المستقبليات، فـ”عوض الانشغال بالجزئيات وأحكامها فقط، أيضا يسمح استيعاب الدراسات المستقبلية في الفقه الإسلامي بفروعه المختلفة بالبحث الواعي والمنضبط في قضايا تشهد تغيرات كبرى، وتشرف على الدخول في مرحلة جديدة”[19].
وقد بين الدكتور المهدي المنجرة أن “دور المستقبلية لا يكمن في إصدار نبوءات، إذ يتجلى هدفها في تحديد الاتجاهات، وتخيل مستقبل مرغوب فيه، واقتراح استراتيجيات لتحويله إلى مستقبل ممكن، فالأمر يتعلق بتسليط الأضواء على الاختيارات قصد مساعدة صانعي القرارات للتوجه نحو الأهداف الطويلة المدى، مع اطلاعهم على التدابير الواجب اتخاذها في الحين قصد الوصول إليها”[20].
وإدراك المقاصد والمآلات لا يحصل للمجتهد إلا ببذل الجهد في تحصيل المعارف والمناهج والخبرات والتجارب التي تؤهله إلى صحيح الاجتهاد، وإلا كان فاقدا لأهلية الاجتهاد، وغير قادر على تحقيق مقصود الشارع من وضع الأحكام.
ثاثا: حاجة النظر الاجتهادي في القضايا المعاصرة للتكامل المعرفي والمنهجي
سأكتفي لبيان ضرورة التكامل المعرفي والمنهجي لتحقيق الاجتهاد التنزيلي على نموذج يزداد شيوعا وانتشارا في السنوات الأخيرة، لعدة أسباب ودواع ومقاصد طبية واجتماعية واقتصادية وحتى سياسية، وهي مسألة نقل وزراعة الأعضاء البشرية سواء عن طريق التبرع حال الحياة أو بالوصية بعد الموت، أو عن طريق البيع.
ومن أهم أسباب انتشار هذه القضية تزايد عدد المتبرعين بالأعضاء عن طريق الوصية، حيث يحرر المتبرع وثيقة رسمية (على شكل وصية) تفيد بتبرعه بأعضائه كاملة أو ببعضها بعد موته، وإقبال عدد من الشخصيات العلمية والسياسية في عدد من الدول الإسلامية على ذلك.
كما زاد من انتشارها تزايد عدد المتبرعين بالأعضاء حال الحياة مع تزايد سلامة ونجاعة عمليات غرس الأعضاء خلال السنوات الأخيرة بفضل التقدم المحرز في المعالجة الكابتة للمناعة، وتحسين الأساليب الجراحية، وطرق الحصول على الأعضاء، وتقنيات حفظها، ونظم الرعاية بعد العمليات الجراحية، بعدما كان فعلها قبل يعد ضربا من المستحيل والخيال[21].
والمقصود بنقل الأعضاء وزراعتها: نقل عضو سليم من جسم سليم متبرع (معط أو مانح) سواء كان إنسانا أو حيوانا أو أي كائن حي، وإثباته في الجسم المستقبل (الآخذ أو المتلقي) ليقوم مقام العضو المريض في أداء وظائفه[22].
ولقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي بعد اطلاعه على الكثير من الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إليه بخصوص انتفاع الإنسان بأعضاء جسم آخر حيا أو ميتا، وتوصل إلى مجموعة من الخلاصات في تصورها تلخيصها كالآتي[23]:
“أولا: المقصود بالعضو هنا أي جزء من الإنسان، من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها، كقرنية العين. سواء أكان متصلاً به، أم انفصل عنه.
ثانياً: الانتفاع الذي هو محل البحث، هو استفادة دعت إليها ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه. على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعاً.
ثالثاً: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية: نقل العضو من حي، ونقل العضو من ميت، والنقل من الأجنة.
الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي، وتشمل نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه، كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها، ونقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة ومالا تتوقف عليه. أما ما تتوقف عليه الحياة، فقد يكون فردياً، وقد يكون غير فردي، فالأول كالقلب والكبد، والثاني كالكلية والرئتين. وأما ما لا تتوقف عليه الحياة، فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه ما لا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائياً كالدم، ومنه ما لا يتجدد، ومنه ما له تأثير على الأنساب والموروثات، والشخصية العامة، كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي، ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك.
الصورة الثانية: وهي نقل العضو من ميت: ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائياً لا رجعة فيه طبيا، وتوقف القلب والتنفس توقفاً تاماً لا رجعة فيه طبياً.
الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة، وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات: حالة الأجنة التي تسقط تلقائياً، وحالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي، وحالة “اللقائح المستنبتة خارج الرحم”.
ولا شك أن الناظر في هذه الخلاصات يتوصل إلى أن المجتهد في هذه الواقعة لا بد له من معرفة دقيقة وتصور كامل لها، ولا يحصل ذلك إلا بإلمامه وتمكنه من علوم الطب ولو بالقدر الذي يفهم منه مقصود من يستشيره من أهل الاختصاص، كما أنه يلزمه معرفة أحوال الناس الاجتماعية والصحية والسياسية حتى لا يكون حكمه مؤديا إلى مفاسد بالغة.
وقد استعرض عدد من الباحثين بتخوف ما يمكن أن يؤول إليه السماح بغرس الأعضاء في جسم الإنسان من المفاسد والأضرار البليغة، نذكر من أهمها[24]:
– احتمال انتقال أحد الامراض الفتاكة بالإنسان، كداء فقدان المناعة المكتسبة “السيدا” أو “الإيدز”، سواء من خلال نقل الدم، خصوصا وأن المريض غالبا ما يتلقى قبل إجراء عملية الزرع وحدات من الدم، تنقل إليه من مجموعة متبرعين، وإما من خلال زرع الأعضاء، وقد تأكد هذا عندما أعلن فريق طبي ألماني أن فيروس الإيدز ينتقل عن طريق غرس الكلى المأخوذة من متبرعين مصابين بالإيدز[25]، أو من خلال زرع أنسجة الأجنة، ويتضح ذلك من خلال انتقال داء “السيدا” بسهولة من الأم إلى جنينها، ويكون ذلك في الغالب مع البغايا المصابات، أو مع مستأجرات الرحم من أجل إنتاج الأجنة، فتنتقل العدوى وتستفحل كلما تم غرس أنسجتهن.
– فتح باب التجارة في الأعضاء البشرية أمام الطامعين من أصحاب الأموال الذين يحولون كل شيء إلى سلعة تباع وتشترى، فيحولون جسد الإنسان إلى قطع غيار وأجزاء خاضعة للعرض والطلب، ومحطا لطمع النفعيين والمصلحيين، وهو ما تحاربه الشريعة لهدره كرامة الإنسانية.
ولا شك أن هذه التخوفات هي التي تجعل الحكم على المسألة يمر بمراحل عديدة قبل الانتهاء إليه، ولذلك فقد استعرض عدد من الباحثين أهم التفاصيل والمراحل التي ينبغي الإلمام بها والخوض فيها قبل الانتهاء إلى الحكم عليها، ومن ذلك: نظرة الإسلام إلى حق الحياة، وملكية الجسد، والمسؤولية الجسدية سواء الفردية الوقائية والعلاجية، أو المسؤولية بالولاية، وحكم التداوي بالمقتطع من بدن الآدمي، بالنظر إلى طهارته أو نجاسته، والتمييز بين انتفاع الإنسان من أعضاء ذاته (الغرس الذاتي)، أو انتفاعه من أعضاء إنسان غيره (الغرس المتجانس)، أو انتفاعه بأعضاء غير الإنسان –الحيوان- (الغرس الدخيل)، ومراتب الانتفاع بذلك بما يمس أصل الحياة من الضروريات لاستبقاء الحياة، أو ما يؤثر في الصحة العامة من الحاجيات أو التحسينيات والتكميليات[26].
ومع كل هذه التفاصيل والتخوفات يتأكد القول بضرورة التكامل المعرفي والمنهجي للنظر في هذه القضية ومثيلاتها من القضايا المتشعبة التي تتطلب جهودا جماعية وتخصصات دقيقة يتداخل فيها النفسي بالاجتماعي والصحي والاقتصادي والسياسي وربما مجالات أخرى تتفرع كلما تشعبت القضايا أكثر، وهو ما يجدد ويؤكد الدعوة إلى الاجتهاد الجماعي ليسد الفراغ والنقص الذي لا محالة واقع في الاجتهاد الفردي مهما بلغ من الدقة وجمع صاحبه من المعارف والعلوم والمناهج، لأن جهد الواحد قاصر عن جهد الجماعة، فضلا عن تحقيق الاجتهاد الجماعي مقاصد متعددة زيادة على النظر في القضية موضوع الاجتهاد، وعلى رأسها لم شمل العلماء والمجتهدين وجمع كلمتهم خدمة لقضايا الإسلام والمسلمين.
خاتمة:
لقد سعيت في مقاربتي لموضوع التكامل المعرفي والمنهجي لتحقيق الاجتهاد التنزيلي إلى النظر في أهم القضايا الرئيسية المتعلقة بالموضوع، فانطلقت من أهمية التكامل وضرورته لتحقيق المقاصد الشرعية للأحكام، وبينت أنها تظهر من خلال دعوة الشريعة الإسلامية إلى الاجتهاد وتحصيل العلوم، وطبيعة القضايا التي يجتهد فيها في العصر الحاصر من حيث التعقد والتداخل والتشعب والحاجة إلى الاجتهاد الجماعي الذي ييسر ذلك، وكذا من خلال تأكيد القول بتغير الأحكام الشرعية وبالحاجة إلى إعادة النظر في التراث الفقهي تحقيقا للمصلحة، كما بيت علاقة ذلك بالشروط التي فصلها العلماء للاجتهاد، لأنتقل إلى الحديث عن أثر ذلك التكامل المعرفي والمنهجي في فهم وتنزيل النص الشرعي، فأجملت القول في أثره في فهم النص الشرعي، وفصلت في أثره في التنزيل، فبينت أن تنزيل الحكم متوقف على حسن تصور الواقعة وفهمها، وتكييفها تكييفا فقهيا صحيحا، وفقه الواقع الذي حصلت فيه وأحوال المكلفين الذين وقعت عليهم، واعتبار مقاصد ومآلات تنزيل الأحكام عليها، خاتما هذا البحث بالتدليل على توقف الاجتهاد التنزيلي على التكامل المعرفي والمنهجي من خلال نموذج من القضايا الطبية المعاصرة آخذ في الانتشار، وهو نقل وزراعة الأعضاء.
خلاصة نتائج البحث:
في ختام هذا البحث يمكن أن أسجل ثلاث خلاصات كالآتي:
– أن التكامل المعرفي والمنهجي بين العلوم المختلفة والمناهج المتعددة التي ذكرت لا يعني أنها جميعا في مرتبة واحدة من حيث علاقتها بالأحكام والاجتهادات، أو من حيث أهميتها وأولويتها. إذ العلوم الكونية والطبيعية ومختلف المناهج العلمية خادمة للعلوم الشرعية. مثلما أن “تكامل أعضاء الجسم البشري في أدائها لوظائفها لا تجعل أطراف الجسم في أهمية القلب أو الدماغ مثلا”[27].
– أن التكامل المعرفي والمنهجي ضرورة شرعية لفهم النصوص الشرعية وإدراك مقاصدها، يتوقف عليه عمل المجتهد في الفهم والتنزيل، كما يتوقف عليه تحقيق المطلوب الشرعي من اجتهاده.
– أن القضايا المستجدة في الوقت الحاضر أكثر تعقيدا وتشعبا من أي زمن مضى، وهو ما يفرض التخصص الدقيق لكل واحد من علماء المسلمين فضلا عن امتلاكه مجموعا من مختلف العلوم؛ فيكون بذلك التكامل المعرفي والمنهجي المطلوب لازم في حدود نسبية على أفراد العلماء، ولازم بالدقة والقوة على مجموعها.
لائحة المصادر والمرجع:
- ابن القيم، إعلام الموقعين، ضبطه وخرج آياته محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1411هـ / 1991م.
- أعمال وبحوث مجلة مجمع الفقه الإسلامي، المتعلقة بانتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، العدد الرابع.
- ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة المعارف، الرياض، د.ط، د.ت.
- بعمر، محمد، من الاجتهاد في النص، إلى الاجتهاد في الواقع، دار الكتب العلمية، ط1، 2009.
- بلكا، إلياس، تجديد علوم الفقه والمقاصد في ضوء المستقبل، مجلة التسامح، عدد: 20، 1428/2007.
- بكرو، كمال الدين جمعة، حكم الانتفاع بالأعضاء البشرية والحيوانية، دراسة في الفقه الإسلامي مقارنة بالتشريعات اليهودية والنصرانية والقوانين الوضعية، دار الخير، ط1، 1422هـ، 2001م.
- السريري، أبي الطيب مولود، تجديد علم أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005م.
- السنوسي عبد الرحمن بن معمر، اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط:1، 1424هـ.
- الشرفي عبد المجيد السوسوه، الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، سلسلة كتاب الأمة، عدد: 62، ط:1، ذو القعدة 1418هـ/فبراير-مارس 1998م.
- الشاطبي أبو إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، شرحه وخرج أحاديثه الشيخ عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1422هـ/2001م.
- صافي، محمد أيمن، غرس الأعضاء في جسم الإنسان، مشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهية، بحث ضمن مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الرابع، ج1.
- القحطاني مسفر بن علي، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة؛ دراسة تأصيلية تطبيقية، دار الأندلس الخضراء، جدة، دار ابن حزم، بيروت، ط:1، 1424هـ/2003م.
- القرضاوي يوسف، الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1414هـ/1994م.
- القرضاوي يوسف، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، دار القلم، الصفا، الكويت، ط:3، 1420هـ/1999م.
- القرضاوي، لقاءات ومحاورات حول قضايا الإسلام والعصر، مكتبة وهبة، 1412هـ، 1992 م.
- القرضاوي، يوسف، عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية، مكتبة الإسكندرية، د.ط، د.ت.
- ملكاوي؛ فتحي حسن، منهجية التكامل المعرفي، مقدمات في المنهجية الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1، 1432هـ/2011م.
- المنجرة، المهدي، الحرب الحضارية الأولى، مستقبل الماضي وماضي المستقبل، عيون، الدار البيضاء، ط1، 1991.
[1] – ملكاوي؛ فتحي حسن، منهجية التكامل المعرفي، مقدمات في المنهجية الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1، 1432هـ/2011م، ص: 27.
[2] – نفس المرجع، ص: 27-28.
[3] – ينظر: القرضاوي، يوسف، عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية، مكتبة الإسكندرية، د.ط، د,ت، ص: 13-14. بتصرف.
[4]– ينظر: القرضاوي، يوسف، لقاءات ومحاورات حول قضايا الإسلام والعصر، مكتبة وهبة، 1412هـ، 1992م، ص: 78-79. بتصرف.
[5]– ينظر: القرضاوي، يوسف، لقاءات ومحاورات حول قضايا الإسلام والعصر، ص: 79.
[6] – القرضاوي يوسف، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلة في الاجتهاد المعاصر، دار القلم، الصفا، الكويت، ط:3، 1420هـ/1999م، ص: 112-113.
[7]– السوسوه عبد المجيد الشرفي، الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، سلسلة كتاب الأمة، عدد: 62، ط:1، 1418هـ/ 1998م، ص: 74.
[8] – ينظر: السريري، أبي الطيب مولود، تجديد علم أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005م، ص: 119.
[9]– ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة المعارف، الرياض، 1/ 330-331.
[10]– ينظر: الشاطبي، الموافقات، شرحه وخرج أحاديثه الشيخ عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1422هـ/2001م، 2/244.
[11]– القرضاوي يوسف، الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1414هـ/1994م، ص: 16-17.
[12] – نفس المرجع، ص: 9-10.
[13]– ابن القيم، إعلام الموقعين، ج: 3، ص: 14-15.
[14] – ملكاوي، فتحي حسن، منهجية التكامل المعرفي، مقدمات في المنهجية الإسلامية، ص: 29-30.
[15] – بعمر، محمد، من الاجتهاد في النص، إلى الاجتهاد في الواقع، دار الكتب العلمية، ط1، 2009، ص133.
[16]– السنوسي عبد الرحمن بن معمر، اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط:1، 1424هـ.، ص:34.
[17] – وتخصيص تلك المسائل من باب أن الحاجة إلى مختلف تلك العلوم تكون قليلة في بعض الأحكام الشرعية كالعبادات المحضة مثلا.
[18]– القحطاني، مسفر بن علي، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة؛ دراسة تأصيلية تطبيقية، دار الأندلس الخضراء، جدة، دار ابن حزم، بيروت، ط:1، 1424هـ/2003م، ص: 352.
[19]– بلكا، إلياس، تجديد علوم الفقه والمقاصد في ضوء المستقبل، مجلة التسامح، عدد: 20، 1428/2007، ص: 255.
[20]– المنجرة، المهدي، الحرب الحضارية الأولى، مستقبل الماضي وماضي المستقبل، عيون، الدار البيضاء، ط1، 1991، ص: 277.
[21]– القحطاني، منهج استنباط أحكام النوازل المعاصرة، ص:676.
[22]– صافي، محمد أيمن، غرس الأعضاء في جسم الإنسان، مشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهية، بحث ضمن مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الرابع، ج1، ص: 125.
[23]– ينظر: مجموع قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، القرار رقم: 26، في دورته الرابعة 1407 هـ، ص: 57-58.
نقلا عن: القحطاني، منهج استنباط أحكام النوازل المعاصرة، ص:676.
[24]– ينظر بتفصيل أعمال وبحوث مجلة مجمع الفقه الإسلامي، المتعلقة بانتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، العدد الرابع.
[25]– ينظر: صافي أيمن، غرس الأعضاء في جسم الإنسان مشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهية، ص: 136.
[26]– ينظر: بكرو، كمال الدين جمعة، حكم الانتفاع بالأعضاء البشرية والحيوانية، دراسة في الفقه الإسلامي مقارنة بالتشريعات اليهودية والنصرانية والقوانين الوضعية، دار الخير، ط1، 1422هـ، 2001م.
[27] – ملكاوي، فتحي حسن، منهجية التكامل المعرفي، مقدمات في المنهجية الإسلامية، ص: 50.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *