أ.د محماد رفيع
قرأت مقالة العلامة سيدي مولود السريري حفظه الله ورعاه، بعنوان: ” نقد المقاصديين “، فأفدت منها كعادتي في قراءة مكتوباته، فالرجل من أهل العلم والفضل والمروءة، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله، غير أني على قلة البضاعة وضعف الزاد آثرت أن أسجل على المقالة بعض الملاحظات لعلها تدفع شيخنا الذي نحبه ونجله ليزيدنا بيانا وعلما في الموضوع، وها أنا ذا أذكر تلك الملاحظات على سبيل الإيجاز:
أولاها: في مفهوم المقصد
ظهر لي سيدي أن كثيرا من كلامك النقدي في المقالة مؤسس على مفهوم جزئي للمقصد، كما عند الأصوليين القدامى (الحكمة من تشريع الحكم الجزئي)، وهذا حمل للمفهوم على نوع منه، وهو المقصد الجزئي، في حين أن للمقصد معنى كليا، كما في كريم علمكم، وتعلمون سيدي أن المصطلحات والمفاهيم مفاتيح المعارف، ولغة التواصل بين أهل العلم، فلو تكرمت ببيان أن المقاصد في اصطلاح أهل الفن مراتب: منها الجزئي المرتبط بكل حكم من الأحكام التكليفية، ومنها المقصد الخاص ( حسب اصطلاح ابن عاشور) المتعلق بباب من أبواب الفقه، ومنها المقاصد الكلية للشريعة جملة، حتى يتنزل كلامك النقدي في محله.
ثانيها: في تعميم الخطاب
جرى خطاب المقالة في المخاطبين مجرى العموم على أفراده، مع أن المقام مقام التخصيص، فمن يستنجد “بالمقاصد والمصالح الكلية” لتكون بديلا عن القواعد الأصولية اتجاه معروف مفضوح أمره، يتحدث عن المصالح المنفلتة عن النصوص، ويقيم علاقة الخصومة بين المقاصد والأصول، وذلك في سياق ما يجري من نقاش وحجاج في قضايا مجتمعية في سياقنا المعاصر، بينما لا أعلم من أهل التخصص الشرعي من يجرؤ على القول باعتماد المقاصد الكلية دون الحاجة إلى المسلك الأصولي في استنباط الأحكام الجزئية، فكان الأولى تعيين المقصود بالخطاب.
ثالثها: في النظر الجزئي والكلي
فلست أدري كيف فات شيخنا أن النظر في نصوص الشريعة سواء على سبيل الاستنباط أو الاستدلال أو التعليل لا يستقيم ولا يصح إلا بنظرين معا: جزئي وكلي، أما التركيز على النظر الجزئي الأصولي وتهوين النظر المقاصدي الكلي فليس مسلكا علميا سليما، وقد أطال الشاطبي النفس في تأصيل وتفصيل هذه المسألة على وجه مبين، إذ لا يستقيم في نظره فهم تلك الأحكام الجزئية إلا باستحضار ما انتظمته من الكليات، ومعلوم أن الارتباط بين الكلي والجزئي يرجع إلى كون الكلي إنما يستمد وجوده من جزئياته إذ هو متضمن فيها حسبما تقرر في المعقولات، بل إن العلم بالكلي غير حاصل قبل العلم بالجزئيات، ولذلك قرر أن الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به دون العلم بالجزئي، والجزئي هو مظهر العلم به [1]، كما أن”الإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة ” [2]، إلى أن قال: ” فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه فقد أخطأ وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ،كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه “[3].
فبالجمع بين النظر في النصوص الجزئية والنظر في كليات الشريعة تحصل الرؤية الكلية الأفقية للشريعة في مختلف أبوابها، فتدرك مراتب المصالح التي قصدت الشريعة تحقيقها في الخلق بمختلف تكاليفها التفصيلية التي انتظمت تلك المصالح، فهذا هو المسلك المؤصل الثابت في القول بالمقاصد والمصالح.
ومعلوم أن الاستنجاد بالنظر المقاصدي تم تجريبه في لحظات تاريخية مختلفة، دون الحاجة إلى استعمال المصطلح، فأبدع وأنتج، فقد اعتمده الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسسوا حضارة وشيدوا دولة حتى صاروا سادة، واتخذه أئمة أعلام كبار في لحظات الانتكاسة فأبدعوا في القول والتعليل والتنزيل، مازلنا عالة على مقولاتهم النفيسة، من أمثال مالك والشافعي وأبي حنيفة والباقلاني والجويني[4] والغزالي والعز والقرافي والشاطبي وغيرهم، كما تم اعتماده من قبل رواد الحركة الإصلاحية من أمثال: خير الدين التونسي، وسالم بوحاجب، ومحمد عبدو وغيرهم في العالم الإسلامي وذلك في سياق معالجة سؤال النهضة بعد صدمة الاستعمار الغربي ومخلفاته، فأحيوا في الأمة جذوة الإيمان والجهاد والتوق للحرية بعد أن كادت تموت.
والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم
والحمد لله رب العالمين
[1]– ينظر الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق دراز 3/6.
[2]– الشاطبي، المصدر السابق.
[3]– الشاطبي، (مصدر سابق) 3/5 .
[4] – وقد وصف عبد المجيد الصغير الاستنجاد بالمقاصد في تصور الجويني بأنه “ذو هدف إنقاذي سياسي واجتماعي قبل كل شيء، ينظر الفكر الأصولي، وإشكال السلطة العلمية في الإسلام، بيروت، دار المنتخب العربي، ط.1/1994، ص 435.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *