د. عبد الصمد المساتي (messati@gmail.com)
باحث في مقاصد الشريعة وقضايا الاجتهاد والتغيرات المعاصرة
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله علي وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
فقد خرَّج الإسلام علماء عظماء في شتى الحقول المعرفية، منذ عهد الرسالة، وعلى امتداد الزمان والمكان، وما يزال هذا الدين يخرج العلماء إلى يوم القيامة، فهم ورثة الأنبياء كما أخبر بذلك الصادق المعصوم، تحقيقا وتصديقا لعالمية الرسالة التي يحملونها وينوبون في تبليغها عن الرحمة المهداة للعالمين.
والناس بحاجة إلى العلماء أكثر من حاجتهم للطعام والشراب، وسائر مقومات الحياة، فإن تميز الإنسان وتكريم الله له عن سائر المخلوقات إنما كان بالعقل والإدراك الذي به تمييز الصالح من الطالح، والخير من الشر، وهو سبب التكليف، وبه يتفاوت الناس.
والعلماء هم أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، ووجب على الناس اتباعهم وتوقيرهم، لأنهم صمام الأمان للأمة، يعصمونها من الزيغ والضلال، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”[1].
ولا شك أن كل ما أصاب الأمة من انحراف فكري وسلوكي، وهوان وضعف، هو نتاج إضعاف دور العلماء والقدوات في المجتمعات الإسلامية، فضلاً عن كيد أعداء الإسلام ومكرهم بالليل والنهار لإفساد المسلمين، ونشر الرذيلة، ومحاربة الفضيلة، ودعم الانحلال، وإضعاف الالتزام.
وسأحاول في هذه الورقة أن أبين حقيقة العالم الوارث للنبوة، والذي تقع عليه مسؤولية بناء الأمة والسعي إلى تحقيق وحدتها، وتحديد أوليات العلماء في حفظ مقدسات الأمة، حسب ما يقتضيه سياق هذ الورقة.
المبحث الأول: من هم علماء الأمة، ورثة الأنبياء؟
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: “أَنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَرَّثُوا العِلْمَ، مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ”[2].
ولا شك أن العالم الوارث للنبوة ليس الذي كثر حفظه للآثار والنقول، أو من اشتغل بتأليف المباحث والفصول، أو من جمع من أقوال السابقين واللاحقين ما خط به كتابا أو كتبا في عدد من العلوم، أو انصب على اختصار المصادر والمدونات أو تهذيبها أو إعادة ترتيبها في شتى الحقول، أو حتى من عني بجمع وتحقيق كتب من تلقت الأمة أعمالهم بالقبول، أو من يجيد استخدام الكلام لسلب العقول.
بل العالم الوارث للنبوة، هو الذي ينوب عنه صلى الله عليه وسلم في بيان شرع الله تعالى لخلقه جميعا، كما ينوب عنه صلى الله عليه سلم في الدفاع عن حرمات الإسلام ومقدساته، وصون كرامة الإنسان وحرماته، وإصلاح ما أفسده الناس ماديا ومعنويا، دعوة إلى مكارم الأخلاق التي هي جوهر الرسالة، واجتهادا في توجيه الناس ودعوتهم إلى الخير والصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة المسلمين وإعانتهم على من عاداهم، والتحذير من تولي الكافرين وأعوانهم، ومن مناصرتهم بأي نوع من أنواع النصرة، وكذا بالوقوف ضد دعوات التطبيع معهم، بما يتطلبه ذلك من صبر ومصابرة ومرابطة.
وهذا هو المعنى الحقيقي للوراثة المقصودة من حديث الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم، فالإرث النبوي بما هو رسالة إلهية للإنسانية، ودعوة هادية لمكارم الأخلاق، وأحكام وتشريعات ضابطة لتصرفات العباد وحاكمة عليها، هو أمانة ومسؤولية على عاتق العلماء، للدعوة إلى كل ذلك، وبذل الجهود لتحقيق مقاصد الرسالة في مختلف مجالاتها.
ولذلك كان العلماء -كما وصفهم الله تعالى- أكثر الناس خشية لله تعالى وحده ولا يخشون غيره، ولا يخافون في قولهم خوفة لائم، قال تعالى:”الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا” (الأحزاب: 39)، وقال سبحانه: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” (فاطر: 28).
والعالم الذي تمثل تلك الصفات، هو الذي تناقلت الأمة نصوصا في مدحه وتقدير مكانته بين المؤمنين، ويكفي في هذا المقام أن نذكر نصا جامعا ماتعا في بيان فضل العلماء. قال فيه محمد بن الحسين الآجري في مقدمة كتابه أخلاق العلماء: “إن الله عز وجل، وتقدست أسماؤه، اختص من خلقه من أحب، فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب، فتفضل عليهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح. فضلهم عظيم، وخطرهم جزيل، ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع، مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العباد، وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، والصحيح على من خالف بقولهم محجاج. الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عند، ما ورد على إمام المسلمين من أمر اشتبه عليه، حتى وقف فيه فبقول العلماء يعمل، وعن رأيهم يصدر، وما ورد على أمراء المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون، وعن رأيهم يصدرون، وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم، فبقول العلماء يحكمون، وعليه يعولون، فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا”[3].
المبحث الثاني: واجب المسلمين وواجب علمائهم
إن واقع الأمة الإسلامية اليوم، وفي مختلف العصور بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة، يشهد على انفراط العقد الجامع لها، واختلال الموازين التي رسمها الشارع الحكيم في المنهج الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، ولا أدل على ذلك: عدم الوفاء بالواجبات التي يتعين التقيد بها والحرص عليها، وفي مقدمتها قيام المسلمين بواجبهم اتجاه علمائهم، وقيام العلماء كذلك بواجبهم اتجاه المسلمين وقضاياهم.
أولا: واجب المسلمين اتجاه علمائهم:
لما كان العلماء بذلك القدر، وبتلك المنزلة والدرجة، فإنه يتعين على الناس جميعا على اختلاف مراتبهم أن يقدروهم حق قدرهم، ويحبوهم ويعظموهم، كما يجب عليهم أن يحفظوا حرماتهم، وأن يطيعوهم فيما يقولون ما داموا على الصفات والأخلاق التي استحقوا بها تلك المنزلة والدرجة.
قال ابن القيم في بيان قدر العلماء ووجوب طاعتهم: “فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا” (النساء: 59)”[4].
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية في وجوب تعظيم العلماء وتجنب الوقوع في أعراضهم: “نعوذ بالله سبحانه مما يقضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص بأحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ”[5].
وقال داعيا إلى وجوب موالاتهم لعظيم فضلهم وقدرهم، وشرف منزلتهم: “فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول في أمته والمحيون لما مات من سنته بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا”[6].
وإنما وجب تعظيم العلماء، ووجبت طاعتهم لأن دين الإسلام: “إنما يتم بأمرين: أحدهما: معرفة فضل الأئمة وحقوقهم ومقاديرهم، وترك كل ما يجر إلى ثلمهم. والثاني: النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإبانة ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى. ولا منافاة أن الله سبحانه بين القسمين لمن شرح الله صدره، وإنما يضيق عن ذلك أحد رجلين: رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم، أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام”[7].
ثانيا: واجب العلماء اتجاه الأمة وقضاياها:
بالرجوع إلى الآثار والنصوص السابقة يتبين أن العلماء حازوا الشرف، واستحقوا الإجلال والتعظيم، ووجبت لهم الطاعة والاتباع، بما حملوه على عاتقهم من مسؤوليات جسام، ومن أعظم هذه المسؤوليات نذكر ما يلي:
- حفظ دين الأمة وعقيدتها:
وحفظ الدين هو أهم وأعظم مقصد جاءت الشريعة لتحقيقه، لأنه يحقق الغاية التي من أجلها خلق الله تعالى الإنسان، وبعث لأجله الأنبياء والرسل، وأنزل الكتب، وفصل الشرائع والأحكام، والعلماء العدول هم ورثة الرسل في ذلك أولا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”[8].
فأول أوليات العلماء تبليغ شرع الله لعباده، بيانا للحلال والحرام، واجتهادا في إفتاء الناس فيما يعرض لهم من النوازل والقضايا، ودعوة إلى الخير والمعروف، بكل أنواعه وفي مختلف المجالات، وعلى جميع المستويات، وفي مختلف الأزمنة والأمكنة، مع وجوب مطابقة قولهم لفعلهم وسيرتهم وسلوكهم بين الناس، ومتى خرجوا عن ذلك أو قصروا فيه، دخلوا تحت الوعيد بأن يكونوا “أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة”[9]، بعد سؤالهم من قبل الله تعالى: “ماذا عملت فيما عُلِّمت”.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أمة الإسلام هي أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك مدحها الله تعالى بقوله سبحانه: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” (آل عمران: 110)، وإلى ذلك دعا سبحانه علماء الأمة خاصة، فقال عز من قائل: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (آل عمران: 104).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الواجب درجات بسب قدرة ومكانة وأهلية كل فرد من الأمة في الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، فقال صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”[10]، وبين عليه الصلاة والسلام أن “أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ”[11]، وحذر صلى الله عليه وسلم الجميع من ترك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال عليه الصلاة والسلام: “والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالْمَعْرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لَكُمْ”[12].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بناء على النصوص السابقة وغيرها واجب كفائي على الأمة في عمومها، وعلى علمائها خاصة، فهم الأقدر على الأمر والنهي بما علمهم الله تعالى من العلم، وبما لهم من مكانة عند الناس، فإن وجد من العلماء من يقوم به سقط الإثم على الجميع، وإلا أثم الجميع بترك هذا الواجب الذي به صلاح الأمة، وصلاح أفرادها.
ومن أهم مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجب على العلماء، نصرة المظلوم، والوقوف في وجه الظالم، وقول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر، ولصعوبته وتبعاته جعله النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد، وقد شهد التاريخ الإسلامي على دور العلماء في توجيه الحكام والسلاطين، والصدح بالكلمة الصريحة والموقف الواضح، بإخلاص وصدق وجرأة، مهما نالهم من سطوة حكام العض والجبر، فمنهم من نفي ومن سجن، ومن ضرب وجلد، ومن قتل ليرجع عن قول قاله فما باع دينه بدنياه، واختار أن يلقى ربه على ما آمن به ودعا إليه، فكانوا نجوما وضاءة في ظلمات الحياة، ومثالا وقدوة في الثبات على الحق، وفي صلابة الموقف.
- السعي إلى تحقيق وحدة الأمة:
وحدة الأمة من المقاصد العظيمة للشريعة الإسلامية، بل هي المقصد الأعظم من التشريع، قال العلامة الطاهر بن عاشور: “أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظام أمر الأمة، وجلب الصالح إليها، ودفع الضر والفساد عنها”[13]، و”المقصد العام من التشريع حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان”[14].
وقد امتدح الحق سبحانه وتعالى أمة الإسلام بوحدتها المحققة للغاية من الوجود، وهي عبادة الله تعالى وتقواه، مصداقا لقوله تعالى: ﴿ِإنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، وقوله عز من قائل: ﴿وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون: 52).
ومسؤولية العلماء في تحقيق وحدة الأمة أكبر من مسؤولية غيرهم، بدءا من مسؤوليتهم في التعريف بحقوق الأخوة الإيمانية، وبواجب نصرة للمسلمين بعضهم لبعض، وبمقدسات المسلمين التي يتعين افتداؤها بالغالي والنفيس، وفي مقدمتها قضية تحرير فلسطين وبيت المقدس، وهي أرض المحشر والمنشر، وأولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهي مسؤولية أخرى جسيمة تتطلب من العلماء بذل قصارى جهدهم لتربية أجيال من المسلمين، والعمل على إيقاظ الهمم وشحذها في النفوس من أجل الدفاع عن حوزة المسلمين وأوطانهم، وبذل جهود أكبر لتوحيد كلمتهم.
وتحقيق وحدة الأمة، لا يعني توحيدها في إطار نظام حكم معين، وإن كان ذلك مطلبا للأمة تحقيقا للخلافة الموعودة، والتي يكون فيها الحاكم أو الإمام كما قال الحسن البصري مجيباً، حين سأله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أن يصف له الإمام العادل، هو “قوام كل ماثل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف وهو القائم بين الله وبين عباده. يسمع كلام الله ويسمعهم وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، وهو كالعبد الذي ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، وهو الذي لا يحكم في عباد الله بحكم الجاهلية، ولا يسلك بهم سبيل الظالمين، ولا يسلط المستكبرين على المستضعفين، فهو وصي اليتامي، وخازن المساكين يربي صغيرهم ويمون كبيرهم”[15].
والحاكم أو الإمام الذي يتصف بهذه الأوصاف هو المقصود في اعتباره من أولي الأمر الذين تجب طاعتهم على الأمة، لأنهم منهم، وحريصون على مصالحهم، وهو ما يؤكد القول بأن صلاح الأمة بصلاح العلماء والحكام، وفسادها بفساد علمائها وحكامها، مصداقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء”[16]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهما أن يتحرى بما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله، واتباع كتاب الله”[17].
ومتى كان الحكام كذلك فهم في تعاون مع العلماء على إقامة مقاصد الدين وتحقيق مصالح الأمة، وتوحيد كلمتها، فيجب بذلك على العلماء السمع والطاعة لهم، تعاونا على الخير والمعروف، وتوحيدا للكلمة، ومتى خرج الحكام عن منهج العدل، وركنوا إلى الفساد والظلم، وخضعوا لشهوات النفس وسلطان الهوى، وأمعنوا في انتهاك الحرمات، وتجاوز الحدود، وموالاة الظالمين وأعداء الأمة، والتطبيع معهم، فلا سمع ولا طاعة، بل وجب على العلماء تقديم النصيحة، والصدح بكلمة الحق، فهم الوارثون للنبوة، وخلفاء الله في الأرض، لرعاية حقوق العباد.
المبحث الثالث: أولويات العلماء ومسؤولياتهم في حفظ مقدسات الأمة:
منذ دخول المحتل إلى أرض فلسطين والنكبات تتوالى على المسلمين، ومن أشد النكسات والنكبات وقعا في نفوس المسلمين عامة، وفي وجدان الفلسطينيين خاصة، خروج بعض العلماء عن المنهج الذي يفترض فيهم، والذي قوامه الشهادة بالقسط، حيث يبررون رغبا أو رهبا بعض التوجهات والمواقف التي تصدر عن حكام الجبر، فيضلوا ويضللوا بأقوالهم وفتاويهم، وهو ما يزيد من حجم المسؤولية على عاتق من بقي من العلماء على العهد والمنهج القويم.
ومن أولى الأولويات في هذه المسؤوليات المرتبطة بالقضية الفلسطينية ما يلي:
أولا: التعريف بالقضية الفلسطينية ومكانة بيت المقدس:
ومن أهم ما ينبغي التركيز عليه في التعريف بفلسطين وبيت المقدس، ما يلي:
- كون فلسطين وبيت المقدس أرضا مقدسة، باعتبارها أرض المحشر والمنشر، وأولى القبلتين وثالث الحرمين.
- اعتبار القدس عاصمة أبدية لفلسطين الإسلامية، وأنها غير قابلة للمساومة أو الاقتسام.
- اعتبار التعلق بالقدس وسائر أرض فلسطين عقيدة يتقرب بها المسلم إلى ربه من باب النصرة والموالاة.
- اعتبار الدفاع عن أرض فلسطين ومقدساتها، بحسب المقدور عليه، واجب المسلمين لا ينفصل عن واجبهم في إقامة شعائر الدين.
- زرع اليقين، وإعادة الثقة المفقودة في نفوس أبناء الأمة، وفي كونها خير أمة أخرجت للناس، وفي مستقبل الإسلام، الذي لا يزيغ عنه إلا هالك، وأنه على المسلمين أن يعضوا على منهجه وشريعته بالنواجد لأنه هو سبيل تحقيق الفلاح والنصر في الدنيا والآخرة، وتقديم النماذج الشاهدة على تفوق المسلمين وريادتهم.
- اعتبار النماذج التي ينبغي للمسلمين دراسة تاريخها، والتعريف بها، والاقتداء بسيرها، هي التي قدمت للأمة عامة ولفلسطين خاصة واجب النصرة والتحرير، وفي مقدمتهم القائد المجاهد البطل صلاح الدين الأيوبي، الذي كسر الصليبيين في حطين، وأعز الله به الإسلام والمسلمين، ورد الله به الأقصى السليب[18].
ثانيا: التحذير من خيانة وخذلان المسلمين:
ومن أشكال الخيانة والخذلان التي ينبغي التحذير منها، والتنبه إليها، ما يلي:
- التقليل من جرم العدو الصهيوني في عدوانه على فلسطين، بدءا من احتلاله للأرض، وهدمه للديار، وإجلاء أهلها، وتغيير معالم الهوية الإسلامية في المناطق المحتلة، ومن ذلك ما فعله الكيان الغاصب من هدم حارة المغاربة وتشريد أهلها، وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضها.
- الاعتراف بالكيان الصهيوني المحتل وتسميته ب “دولة إسرائيل”، فهو كيان إرهابي يسفك الدماء، ويشن الغارة تلو الغارة، ويستهدف من حملوا لواء الدفاع عن حوزة الأرض وحرمة أهلها وقدسية مآثرها التاريخية، كما يستهدف الأبرياء العزل ويقتلهم أمام أنظار العالم المطبع والداعم لسياسته الاستيطانية.
- ربط أي علاقة مع الكيان الصهيوني الغاشم بأي شكل من الأشكال، سواء مباشرة أو بطرق غير مباشرة، سياسيا من خلال إقامة علاقات رسمية، أو اقتصاديا من خلال تبادل السلع وفتح الأسواق، أو في أي مجال من المجالات الثقافية والرياضية والفنية وغيرها.
ثالثا: بيان حقيقة التكالب العالمي على الإسلام ومراميه:
ومن أهم ما ينبغي بيانه للحد من التكالب العالمي على أمة الإسلام ما يلي:
- التحذير من التداعي العالمي من أجل تشتيت الأمة وبث الفرقة بين أبنائها، والتركيز على ما يجمع كلمة الأمة ويوحدها، ونبذ كل مظاهر الخلاف في الخطاب والممارسة مما يدعو إلى التنازع والفرقة والخصام، استجابة لأمر الله تعالى: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (الأنفال: 46)، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (آل عمران: 103).
- التنبيه إلى المخططات والتحديات والمشاريع الخارجية والمؤامرات المتربصة والمعادية للمشروع الإسلامي وللحاملين للوائه، مع التنبيه إلى أن الحكمة ضالة المؤمن الذي يعمل على استيعاب إيجابياتها وعرضها وإخضاعها للقيم والأخلاق الناظمة للسلوك الإنساني في كل ما يتعلق بدينه ودنياه.
- محاربة كل القيم والعادات والتقاليد الدخيلة الناشرة للرذيلة في صفوف المسلمين، والتي يراد منها تطبيع شخصية المسلم مع الرذيلة والقيم الدخيلة وتشربها، وتكوين ذهنية رعوية تقاد ولا تقود، وتقلد الآخرين وتتبع خطواتهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وهو ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم[19].
ختاما:
فإنه على العلماء أن يقوموا بواجبهم في تربية أبناء الأمة التربية الإسلامية المتوازنة، وتوعيتهم بواجباتهم الفردية والجماعية، وهو ما ينعكس إيجابا على قيام الأمة بواجبها اتجاه علمائها، تقديرا وتعظيما، وطاعة واتباعا، كما أنه على العلماء أن يبذلوا كل جهودهم في الدفاع عن قضايا المسلمين، وفي مقدمتها كسر الحصار الجديد على فلسطين الذي يزيد بمسارعة بعض الدول العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، وذلك بتقديم النصح للحكام، وقول كلمة الحق في وجه من يخرج عن منهج العدل، ويضيع حقوق البلاد والعباد، ويطبع مع أعداء الدين، وكذلك بتوعية المسلمين بواجبهم نحو قضايا الأمة العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وباتخاذ المواقف القوية المتصدية لكل مسعى لتهديد وتصفية القضية، وكذا بتكوين مؤسسات وجبهات عريضة فعالة لتحقيق تلكم المقاصد التي خلفوا فيها الله تعالى في أرضه، وخلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته.
[1] – صحيح مسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، حديث رقم: 4934.
[2] – صحيح البخاري، كتاب العلم، باب: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ (تبويب).
[3] – الآجُرِّيُّ، أبو بكر محمد بن الحسين، أخلاق العلماء، منشورات رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، السعودية، 1/15.
[4] – ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ – 1991م، 1/8.
[5] – ابن تيمية، تقي الدين أحمد الحراني، الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1408هـ – 1987م، 6/92.
[6] – ابن تيمية، تقي الدين أحمد الحراني، مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، 1416هـ/1995م، 20/232.
[7] – ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، 6/92-93.
[8] – مشكل الآثار للطحاوي، باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه، حديث رقم: 3268.
[9] – صحيح ابن حبان، كتاب البر والإحسان، باب الإخلاص وأعمال السر، حديث رقم: 409.
[10] – صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، حديث رقم: 95.
[11] – سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، حديث رقم: 3802.
[12] – مسند أحمد بن حنبل، مسند الأنصار، حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: 22682.
[13] – ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس، ط2، 2001م، ص 405.
[14] – م ن، ص 273.
[15] – ابن عبد ربه، شهاب الدين أحمد بن محمد، العقد الفريد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1404 هـ، 1/33. بتصرف.
[16] – أبو نعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار السعادة، مصر، 1394هـ – 1974م، 4/96.
[17] – ابن تيمية، تقي الدين أحمد الحراني، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، السعودية، ط1، 1418هـ، 1/127.
[18] – ينظر للتعريف بالقائد صلاح الدين وبسيرته: الصلابي، على محمد، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، دار المعرفة، بيروت، ط1، 2008م.
[19] – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه”. صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم: 3287.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *