عُقُوبَةُ “الإِعْدَامِ“ مقاربة شرعية مقاصدية

عُقُوبَةُ “الإِعْدَامِ“ مقاربة شرعية مقاصدية

الدكتور محمد جعواني

الحمد لله حقّ حمده، والصّلاة والسّلام الأتمّان الأكملان على نبيّ الرّحمة والملحمة، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، أمّا بعد:

فقد تباينت وجهات وزوايا النّظر لعقوبة الإعدام، فاختلفت تبعا لذلك التّكييفات والمقاربات الفكرية والحقوقية والاجتماعية. فهناك المنكِرُ المستهجِن، ويُقابله المُقِرُّ المدافعُ، وبينهما المتحفّظُ المتريّثُ. ويبدو أنّ “رؤية” الفريق الأوّل سائرة إلى الرّجحان، إذ صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في جمعها العامّ يومه 15 دجنبر 2024 على إلغاء عقوبة الإعدام.

وتُقدّم هذه الورقة خطوطا عريضة لمقاربة شرعية مقاصدية لعقوبة الإعدام.

حفظ النّفس: مقصد شرعي كلّي

“وَضْعُ الشَّرَائِعِ إِنَّمَا هُوَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ مَعًا”.

تلك قاعدة قرّرها الرّاسخون في علم الشّريعة، وصاغها إمام المقاصد الشّاطبي في موافقاته. وفصّلها ابن القيّم ببيانه أنّ ” الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا. فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْعَبَثِ، فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ”.

والمصالح مراتب: ضرورية، وحاجية، وتحسينية.

والمصالح الضّرورية خمسٌ: حفظ الدّين، والنّفس، والعقل، والنّسل، والمال. وهي مرعية في جميع الملل. “وَتَحْرِيمُ تَفْوِيتِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ وَالزَّجْرِ عَنْهَا، يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَشْتَمِلَ عَلَيْهِ مِلَّةٌ مِنْ الْمِلَلِ، وَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي أُرِيد بِهَا إصْلَاحُ الْخَلْقِ”.

والحفظ لهذه الضّروريات يكون من جانبي الوجود والعدم، فمن جانب الوجود شرع الإسلام كلَّ ما يقيم أركانها ويثبِّت قواعدها… ومن جانب العدم شرع كلّ ما يدفع عنها الاختلال الواقع أو المتوقَّع في الواقع الوجودي للإنسان. ومن ذلك الحدود الشّرعية المقرّرة.

ولحفظ النّفس، شرع الله سبحانه ما يكون سببًا في إيجادها، فكانت سنّة الزواج بمقدّماتها وأحكامها ومقاصدها، ليحصُل التّوالد والإنجاب، فتوجدُ الأنفس في إطارٍ صحيح محصَّن.

ثمّ شرَع ما يديم بقاء النّفوس ويضمن سلامتها وكرامتها، فأحلَّ الطيّبات من الطّعام والشّراب واللّباس والمأوى، وفصّل الحقوق والواجبات، وقسّم الأدوار والمسؤوليات (أبوّة، وأمومة، وبنوّة).

بل أباح “المحظورات” عند “الضّرورات” لذات المقصد: حفظ الأنفس من الهلاك. ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة، 173]

ولحفظ النّفس من جانب العدم، سنَّ الله تعالى لعباده أحكامًا تصون وتحمي نفوسهم من الضّرر المؤدّي للتّلف أو العطب الجزئي، أو المفضي للهلاك الكلّي.

فقدَّس حقّ الحياة، وحرّم الخبائث بكلّ صنوفها، وجرّم القتل بكلّ أشكاله، وشرع حدودا زاجرة رادعة، ونهى عن إذاية النّفوس في كلّ أبعادها، وحثّ على التّداوي والتّعالج، ورغّب في تعاطي أسباب القوّة والعافية من رياضة وحمية وغذاء متوازن…

﴿ وَلاَ تُلْقُوْا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة، 195] ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النّساء، 29]، ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾[النّساء، 193]، ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾[الأنعام، 151] ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء، 31]، ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا﴾ [الإسراء، 33]، ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾[التّكوير، 8-9].

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا.

وعن أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. قِيلَ: فَهَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ”. وفي رواية: “إنَّه كانَ حَرِيصًا علَى قَتْلِ صَاحِبِهِ”.

فالإجهاض محرَّم مجرَّمٌ، إلّا في حالات معدودة يقرّرها الطبُّ الصّريح والفقه الصّحيح. والوأدُ جريمة جاهلية منكرَة، وإزهاق نفسٍ بريئة يعادل إزهاق البشرية جُرما وفظاعةً. ﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة، 32]

بعد هذه المقرّرات البيّنات، وعلى هديها وبصائرها، تُفهَم وتُبحَث مسألة “الإعدام”.

“الإعدام”: من أجل الحياة

قد يبدو العنوان غريبا ومثيراً !! إذ، كيف يكون “الإعدام” وهو قتلٌ وإفناء، إحياءً وإبقاءً.

فنقول بأنّ المرجوَّ المطلوب أن تُعالَج في النّفس البشرية نوازع الشرّ والعدوان، وكوامن التّسلّط والطّغيان، بالتّربية الحكيمة، والتّعليم الرّشيد، والرّعاية الحانية، والقدوة الحسنة. ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشّمس، 7-10]

لكن، ما الخطبُ والحيلة عندما تُمسَخُ الفطرة، وتُداس القيم والأخلاق، وتُنتهَك القوانين والأعراف، وتَطغى النّزوات والأحقاد…فيصير الآدمي أضلَّ وأحطَّ من الحيوان، ويهوي في دركات السّفالة والانحطاط، ويُصبح “وحْشاً” كاسراً، و”قنبلة” موقوتةً، ولُغما قابلا للانفجار، يهدّد سلامة الأبرياء، ويُزعزع أمْن البلاد والعباد، موغلاً في الدّماء والأموال والأعراض!!!

إنّه في مثل تلك الحالات، يتعيّن من الدّواء الكيُّ، ويتأكّد من الجراحة الاستئصال.

فيُزال الضّرر الأكبر بالضّرر الأصغر، وتُرتَكب أدنى المفسدتين وتُدفَعُ أعلاهما.

وفي شِرعة القصاص تذكرة لأولي الألباب والنّهى. ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة، 179]

“الإعدام”: من أجل العدالة والإنصاف

إنّ شرعة القصاص هي تنزيلُ اللّطيف الرّحيم، الخبير الحكيم، فاللّه أرحم بعباده منهم بأنفسهم. فلا داعي لـ”مزايدات” دعاة حقوق “الإنسان”، ومفردات قاموس الشّفقة والعطف والرّأفة، فقد تجلّى العوار وانكشفت السّوأة، وتعرّى وجه القسوة والوحشية والهمجية، وتكسّرت الشّعارات على صخرة “غزّة العزّة” وعلى صخور قبلها ومعها وبعدها.

ولا يُحسُّ بالمرارة إلاّ مَن ذاق وتجرّع. و”ليست النّائحة كالثّكلى”. ولذلك، كان من العدل والقسطاس أن تكون العقوبة بالمثل، سواءً بسواءٍ. ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ [المائدة، 45]

وليست النّفس المزهوقة أقلّ شأنًا من النّفس المزهِقة، فلم العويل والثّبور على نفسٍ دون نفسٍ!!! وقد يقول دعِيٌّ مأجور، أو متسرِّعٌ مَلُومٌ: تلك نفس ذهبت، فلم نُذهب الأخرى؟

فنحتاج إلى تذكيره بالمقاصد السّالفة، والموازنات السّابقة. دون أن ننسى لَفت نظره إلى إمكان العفو من أهل الدّم، إن رضُوا.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة، 178]، ﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾ [الإسراء، 33]

ومع إمكان العفو، نلحُّ على المحاكمة العادلة في كل مراحلها، والالتزام الصّارم بالشّروط التي تُثبت التّهمة والإدانة. فـ”الأصل براءة الذمّة”، و”البيّنة على المدّعي”.

“الإعدام”: زجر وردع

“إنّ الله يزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن”، تلك حكمة عثمانية (تنسب إلى الخليفة الرّاشد عثمان بن عفان رضي الله عنه). فمن النّفوس من ينصاع للكلمة الطيّبة والموعظة الحسنة، فتلين لها جوانبه، وتستقيم عليها جوارحه، فذاك نصيبه من وازع القرآن.

وهناك “أنفُسٌ” لا يكفي فيها وازع القرآن، بل تحتاج إلى وازع السّلطان، لتستقيم على الجادّة.

ولا نقصد بوازع السّلطان القهر والبطش، وإنّما هو سلطة القانون الحكيم العادل.

وعموما فـ”التّرغيب والتّرهيب”، و”اللّين والصّرامة”، و”التّبشير والتّنذير” ثنائيات لابدّ منها في “سياسة” النّفوس وتربيتها وتهذيبها.

فشدّة عقوبة “الإعدام” من شأنها أن تُنفّر “قتلةً” بالقوّة، كانوا ينوون، أو يدور في خلدهم تكرار الجريمة وإزهاق أرواح بريئة. وإذا لم يعتبر معتبِرٌ، وأقدم على الفعل عن سبق إصرار وترصُّد، فذاك دليل “شذوذه”، وموجبُ الحكم بمعاقبته.

الإعدام بين التوفيق المقاصدي والتوظيف السياسوي :

إن العقاب في المنظور الشّرعي يعتبر آخر الحلول، ولا بدّ أن يسبقه توفير كلّ مقوّمات الحياة الكريمة، من حكم راشد، وتربية وتعليم ناجحين، وعدالة اجتماعية واقتصادية وحقوقية… ومشروعية عقوبة “الإعدام” لها اعتبارها وفق السّياق السّليم، تربويا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وحقوقيا… وجل هذه المقومات غائبة بل مغيبة في جل البلاد العربية الإسلامية، فحين نضع تنفيذ هذه العقوبة بين أيد غير أمينة، سمتها الغالبة الفساد والاستبداد، تمنع حرية الرأي والفكر والتعبير، ويسري في دمائها حب الانتقام، وتتفنن في صياغة التهم وإلصاقها بكل معارض وخصم، فتهم الخيانة العظمى والتخابر مع جهات أجنبية والتحريض على العنف والفتنة …تهم جاهزة في كل وقت وحين، ويشهد تاريخنا العربي الإسلامي الإفريقي على عشرات المحاكمات الصورية السياسية كان المحاكمون فيها رجال الفكر والعلم والسياسة والصحافة.

فلا يستقيم أن تشرع عقوبة الإعدام لتصفية الحسابات مع المعارضين والخصوم السياسيين، ويفتح لهم المجال للفتك بمعارضيهم كما حدث في مصر حيث حكم بالإعدام برلمانيون ووزراء سابقون وأيضا علماء ومفكرون وأطر عليا في مختلف التخصصات.

خاتمة:

قد نتفق على مشروعية عقوبة الإعدام إذا استحضرنا نصوص الشريعة الإسلامية ومقاصدها وكلياتها في المطلق، وقد نقول بتنفيذ عقوبة الإعدام إذا كان الحكم راشدا وكان السياق العام سليما تربويا وتعليميا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وحقوقيا. أما والحال غير ذلك، فلا بد أن نتوقف ونتريث، فالأحكام في الإسلام لا تنفصل عن الزمان والمكان والأحوال، وهي تتطلب فهما دقيقا للنصوص وقراءة للواقع وفقها للتنزيل وتصورا ودراية لمآل التنزيل.

ولما يغيب الحكم الراشد، ونفقد البيئة السليمة في مختلف مناحي الحياة، نلجأ إلى قاعدة درء الحدود بالشبهات، ويكون لكل مقام مقال.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *