مباحث في المقاصد

مباحث في المقاصد

✍?الدكتور محمد جعواني — أستاذ باحث في الفقه الإسلامي والمالية الإسلامية

هذه جملة مباحث في مقاصد الشريعة يهتدي بها المبتدئ ويتذكر بها المحقق، تناولت من خلالها أهم القضايا العلمية التي يثيرها الدرس المقاصدي.

1 –  مفهوم المقاصد:                                          

المقاصد في اللغة: جمع مقصد، مشتق من الفعل قصَد، يقصِد، قصْداً. والقصد يطلق ويراد به معان:

فالقصد إتيان الشيء، والقصد العدل. وقصدتُ الشيء، وله، وإليه قصداً من باب ضرَب: طلبتُه بعينه. وقصَد في الأمر قصدا توّسط وطلَبَ الأسدَّ ولم يجاوز الحدَّ. وهو على قصدٍ أي: رُشد. وقصدتُ قصْدَه أي: نحوَه[1].

ويستفاد من الدلالة اللغوية حضور  معاني القصدية والهدفية والغائية في السلوك.

المقاصد في الاصطلاح: لم يضع القدامى تعريفا علميا للمقاصد[2]، واكتفوا بالحديث عن مضامينها. وانبرى بعض المعاصرين لصياغة تعريفات للمقاصد، ومن ذلك:

– تعريف محمد الطاهر ابن عاشور-رحمه الله- في كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” حيث قسمها إلى مقاصد عامة ومقاصد خاصة، وعرف المقاصد العامة بقوله:” المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة”[3]. وعرف المقاصد الخاصة بقوله:” هي الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة”[4].

– تعريف علال الفاسي- رحمه الله- في كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها” بقوله:” المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها”[5].

– تعريف الدكتور أحمد الريسوني في كتابه” نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي” بقوله:” مقاصد الشريعة هي: الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد”[6].

– تعريف الدكتور الخادمي في كتابه “الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته” بقوله:” المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكما جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية”[7].

– تعريف الدكتور إبراهيم الكيلاني في كتابه “قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضا ودراسة وتحليلا” بقوله:” المعاني الغائية التي اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه”[8].

– تعريف الدكتور إسماعيل الحسني في كتابه” نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور” بقوله:” الغايات المصلحية المقصودة من الأحكام، والمعاني المقصودة من الخطاب”[9].

يلاحظ من خلال التعريفات السابقة اختلاف زوايا النظر، فالبعض اكتفى بمقاصد الأحكام، وهؤلاء منهم من فرّق بين العامة منها والخاصة، ومنهم من سوّى بينهما. ولاحظ آخرون إلى جانب مقاصد الأحكام وجود مقاصد للخطاب.

والكل مجمع على كون مقاصد الشريعة هي الغايات المصلحية الكامنة وراء الأحكام الشرعية والتي تتمثل أساسا في تحقيق سعادة الإنسان في الدارين.

2- أهم وظائف المقاصد وفوائدها:

تتجلى أهم وظائف المقاصد الشرعية وفوائدها في تحقيق ما يلي:

  • الإخلاص والصواب: فالمقاصد حافز المكلف لتخليص قصده وتصويب عمله ليُقْبَل عند ربه.
  • الكشف والبيان: والمقاصد الشرعية تعين على حسن فهم الأحكام الشرعية وإدراك معانيها وأسرارها وغاياتها، فتنجلي بذلك شريعة رب العالمين للأفهام وتدركها العقول فتسارع إلى تنزيلها في واقع الحياة الخاصة والعامة.
  • التشريع والاجتهاد: وإدراك المقاصد الشرعية وفقهها يعين على تسديد عملية الاجتهاد وترشيدها، فالمقاصد قبلة المجتهدين، وبالتالي يتيسر استنباط الأحكام الشرعية لنوازل الناس وقضاياهم في كل وقت وحين.
  • التوعية الحقوقية: والمقاصد الشرعية تسهم في تكوين وعي حقوقي لدى الناس، فيعرفون بذلك أهم الحقوق التي كفلها لهم دين الإسلام، فيسعون إلى طلبها وتمثلها في أنفسهم وفي غيرهم.
  • الترشيد والتقويم: ومن شأن المقاصد الشرعية أن ترشد عقل المسلم وتسدد حركة فكره ونظره، وتقوّم كل انحراف في الفكر والممارسة. فيهتدي بها الدعاة والمجددون ويستنيرون بهديها في تبليغ الرسالة بروحها ورحمتها.

3- أهم تقسيمات المقاصد:

تقسم المقاصد باعتبارات مختلفة إلى أنواع كثيرة، منها ما يلي:

  • باعتبار مصدرها أو محل صدورها تنقسم إلى قسمين: مقاصد الشارع ومقاصد المكلف.

أ- قصد الشارع: ويقصد به الغايات التي قصدها الشارع بوضعه الشريعة. وهي أنواع أربعة:

– قصد الشارع في وضع الشريعة: بمثابة نظام عام للسعادة، بجلب المصالح للعباد ودفع المضار عنهم.

– قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام: بإنزالها عربية وأمّية مراعاة للغة وحال المنزّلة عليهم تيسيرا للفهم.

– قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها: بخُلوّ الشريعة من كل ما فيه مشقة وما لا يطاق من التكاليف.

– قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة: بإخراج المكلف عن داعية هواه وإدخاله في دائرة الخضوع لله.

ب- قصد المكلف: ويقصد به بواعث المكلف وغاياته من العمل.

وينبغي أن يكون قصد المكلف في العمل موافقا لقصد الشارع في التشريع، فمن ابتغى في التكاليف مالم تشرع له فعمله باطل.

  • باعتبار وجود حظ المكلف وعدمه، تنقسم إلى مقاصد أصلية ومقاصد تابعة.

أ- مقاصد أصلية: وهي التي ليس فيها حظ ظاهر للمكلف كأمور التعبد والامتثال غالبا.

ب- مقاصد تابعة: وهي التي فيها حظ ظاهر للمكلف كالبيع والنكاح.

  • باعتبار تعلقها بالخطاب أو الأحكام تنقسم إلى قسمين:

أ- مقاصد الأحكام: هي الغايات المصلحية المرعية في أحكام الشريعة، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:

  • المقاصد العامة: هي المعاني والحكم الملحوظة في جميع أبواب الشريعة.

مثالها: – إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا بتعبير الإمام الشاطبي.

– تحقيق القسط والعدل في الحياة الخاصة والعامة. “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط”[الحديد، 24]

  • المقاصد الخاصة: وهي المعاني والحكم الملحوظة في بعض أبواب الشريعة

مثالها: – تكثير سواد الأمة والحفاظ على النوع البشري وتلبية حاجات الأزواج كمقاصد للزواج.

       – تطهير نفوس الناس من الشح والبخل والجشع، وتحقيق التكافل والتضامن…كمقاصد للزكاة.

  • المقاصد الجزئية: وهي المعاني والحكم الملحوظة في كل حكم شرعي على حدة.

مثالها: – إعلام الناس وإخبارهم بدخول وقت الصلاة كمقصد من مقاصد الأذان.

       – تمييز النكاح الشرعي عن الزنى والمخاذنة كمقصد من مقاصد المهر.

ب- مقاصد الخطاب: هي المعاني التي يقصدها الشارع من كلامه.

مثالها: – حلّية البيع وحرمة الربا من قوله تعالى: “وأحلّ الله البيع وحرم الربا”[البقرة،275]

  – عدة المرأة التي تحيض ثلاثة قروء. من قوله تعالى: “والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء”[البقرة،226 ]

  • باعتبار القطع والظن، تنقسم إلى مقاصد قطعية ومقاصد ظنية.

أ- مقاصد قطعية: وهي التي تواترت أدلتها، كمقصد التيسير والأمن والعدل…

ب- مقاصد ظنية: وهي التي لم تبلغ مرتبة القطع واختلفت فيها الأنظار كمقصد ضرب المتهم عند استنطاقه.

4- بعض أعلام الفكر المقاصدي وأهم إسهاماتهم:

أسهم في تأسيس القول وتقعيده في المقاصد الشرعية ثُلّة من الأعلام الجهابذة عبر مسار زمني تراكمي، ومن أبرزهم:

– الحكيم الترمذي (أبو عبد الله محمد بن علي) من أوائل من اهتم بالبحث عن علل وأسرار الشريعة، ولعله أقدم من وضع كتابا خاصا في المقاصد وهو كتاب “الصلاة ومقاصدها”، وإن كان ينحو فيه منحى إشاريا وليس منحى علميا منضبطا. وله كتبا أخرى منها “الحج وأسراره” و”علل الشريعة”، و”الفروق”.

أبو بكر القفال الشاشي، المعروف بالقفال الكبير(ت365ه): صاحب كتاب(محاسن الشريعة)، من أوائل من استعمل مصطلح “الاستصلاح”، أكثر في كتابه ذكر التعليلات الجزئية، ولم يغفل ذكر المقاصد العامة والأسس الكلية للشريعة.

– أبو الحسن العامري (ت381ه): صاحب كتاب “الإعلام بمناقب الإسلام” له فضل السبق إلى ذكر الضروريات الخمس والتنبيه على منبع استنباطها من خلال العقوبات الشرعية التي وضعت لحفظ أركان الحياة الفردية والاجتماعية.

– أبو المعالي عبد الملك الجويني(ت478ه): لإمام الحرمين ريادة في مقاصد الشريعة لا ينازعه فيها أحد، وتتجلى تلك الريادة في كثرة ذكره للمصطلحات “المقاصدية” وتنبيهه عليها، وهو صاحب السبق في تقسيم مقاصد الشارع إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات، وأيضا له السبق في الإشارة إلى المصالح الضرورية التي ستحصر فيما بعد في الخمس المعلومة.

– أبو حامد الغزالي(ت505ه): لحجة الإسلام ريادته في موضوع المقاصد تتميما وتنقيحا وتحريرا وإضافة، فمعه تحددت الضرورات الخمس بوضوح، واستقر التقسيم الثلاثي للمصالح وما بينها من علاقات خصوصا في “المستصفى”.

– فخر الدين الرازي(ت606ه): اختصر ولخص جهود من سبقه في الموضوع، وأجاد الدفاع عن مسألة “التعليل”.

– سيف الدين الآمدي(631ه): لخص وأجاد، ومن إضافاته إدخال المقاصد في باب الترجيحات، وبيان ترتيب الضروريات والترجيح بينها وحصرها في الخمس فقط.

– ابن السبكي(771ه): ومن إضافاته زيادة ضروري سادس وهو العرض.

– عز الدين بن عبد السلام(ت660ه): وهو صاحب كتاب “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” و”شجرة المعارف”، ويرى بأن الشريعة كلها معللة برعاية المصالح ودفع المفاسد. وأبدع في بيان مراتب المصالح والمفاسد وصلتها بالثواب والعقاب.

– شهاب الدين القرافي(ت684ه): تلميذ العز النجيب وصاحب كتاب “الفروق”، سار على نهج شيخه وحرر ونقح، وقعّد للتمييز بين مقامات التصرفات النبوية التي تعين على إدراك مقاصدها بجلاء.

– ابن تيمية (728ه):كتبه شاهدة على اعتداده بالمقاصد وفقهها، ومن إضافاته الدعوة إلى إعادة النظر في حصر الكليات في الخمس المعروفة.

– ابن القيم (ت751ه): تلميذ ابن تيمية ووارثه، مصنفاته غنية بفقه المقاصد وإعمالها.

– أبو إسحاق الشاطبي(ت790ه): إمام المقاصد، صاحب “الموافقات” التي حرر فيه موضوع المقاصد وأبدع في الاستدلال على مقاصد الشريعة حتى صارت أصولا قطعية، وبين أقسامها ودقق مباحثها بشكل لم يسبق إليه. وتحدث عن مقاصد المكلف واعتبار المآلات، والحاجة إلى المقاصد في الاجتهاد والفتوى.

– محمد الطاهر ابن عاشور(1973م): شيخ الزيتونة وصاحب “مقاصد الشريعة الإسلامية” والذي بشر بميلاد علم جديد هو علم مقاصد الشريعة، وحرر البحث في مفهوم المصلحة، ودعا إلى المزيد في الضروريات، وأوضح مسؤولية السلطة السياسة في تفعيل المقاصد وحمايتها. وقعد قواعد مهمة في المقاصد الشرعية.

– العلامة علال الفاسي(ت1974م): صاحب “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها” الذي أفرده لموضوع المقاصد وحرر فيه مسائله. ودعا إلى إضافة مصالح ضرورية كوحدة الأمة وإزالة الفوارق بين أفرادها، وحق الكرامة، وحقوق المرأة، والحريات بأنواعها، واستقلال القضاء عن السياسة.

– بعض المعاصرين كالدكتور الريسوني إسماعيل الحسني وجمال الدين عطية…الذين حاولوا الكشف عن نظرية المقاصد ووصفها وبيان أسسها ومباحثها وفوائدها في الفكر والفقه والدعوة والممارسة…

5- الشريعة بين التعليل والتعبد:

  • معنى التعليل:

التعليل في اللغة: من علّ الرجل يعل من المرض، أي: يشكو بسبب المرض. كما يقال: هذا علة لهذا، أي: سبب[10]. واعتلّ: إذا تمسك بحجة من الحجج. وأعلّه: إذا جعله ذا علة. ومنه: إعلالات الفقهاء واعتلالاتهم[11].

واصطلاحا: يقصد بتعليل الشريعة معقولية معانيها وغائية أحكامها. بمعنى أن أحكام الشريعة متضمّنة لحكم ومعان ومصالح تتحقق للمكلفين عند تطبيقهم لتلك الأحكام. وعلى هذا جماهير أهل العلم المحققين.

  • سبب الخلاف حول التعليل:

أنكر الظاهرية في شخص ابن حزم-رحمه الله- وبعض الأصوليين المتكلمين تعليل الشريعة بحجة استلزام القول بالتعليل لنسبة النقص إلى الله تعالى” لأن من فعل فعلا لغرض كان حصوله بالنسبة إليه أولى، سواء كان ذلك الغرض يعود إليه أم إلى الغير، وإذا كان كذلك  يكون ناقصا في نفسه مستكملا في غيره، ويتعالى الله سبحانه عن ذلك”[12]، أو بحجة أن في التعليل سؤال لله تعالى، والله سبحانه وتعالى ﴿لا يسأل عما يفعل﴾[الأنبياء،29] فيكون المعلل فاسقا عاصيا لله عز وجل وملحدا في الدين[13]. أو بحجة استلزام التعليل للقول بالعلة المؤثرة كما هو قول الفلاسفة. أو إيجاب الأصلح على الله كما تقول المعتزلة.

وأجاب العلماء عن حجج منكري التعليل بكون القول بالتعليل لا يستلزم ما أوردوه من مستلزمات، وأن نصوص الوحي من الكتاب والسنة حافلة بذكر العلل وبيان الأغراض والمصالح المنوطة بالأحكام الشرعية، كما أن تعليل الشريعة كان قضية مسلمة عند الصحابة الكرام الذين نزل القرآن بمعهود لسانهم، فساروا على سَنَنه يعللون الأحكام ويسبرون أغوارها.

ومن جهة المعقول فالله سبحانه هو الحكيم وأفعاله في الخلق والأمر منزهة عن العبث. يقول الفخر الرازي:” إن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين لمرجح أو لا لمرجح. والقسم الثاني باطل. وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح، وهذا محال، فثبت القسم الأول.

وذلك المرجح إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العبد، والأول باطل بإجماع المسلمين، فتعين الثاني. والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة العبد أو مفسدته أو ما لا يكون لا مصلحته ولا مفسدته. والقسم الثاني والثالث باطلان باتفاق العقلاء فتعين الأول”[14].

ولعل هذه القضية مما يظهر فيها بجلاء تأثير الجدل الكلامي على المباحث الأصولية، حيث بالغ المعتزلة وأساؤوا الأدب مع الله بقولهم بوجوب رعاية الأصلح “وأنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح وفعل العبث، بل يجب أن يكون فعله مشتملا على جهة مصلحة وغرض”[15]. وأُسِر الأشاعرة في دوامة ردود الأفعال وهاجس مخالفة الاعتزال فأحسنوا عندما اعتبروا العلل جَعْلية من الله تعالى وقالوا:” إنه وإن كان لا يجب على الله رعاية المصالح إلا أنه لا يفعل إلا ما يكون مصلحة لعباده تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا[16]. لكنهم لم يصيبوا عندما فسروا العلة بالأمارة والعلامة والمعرّف أو بالموجب بجعل الله تعالى له موجبا وتركوا تفسيرها بالحكمة والمصلحة، نفورا من القول بالمؤثر كما هو عند المتكلمين. أو لأن الوصف أدخل في الضبط من الحكمة ولذلك رُجِّح على المصلحة.

  • تعليل العبادات:

درج جماهير أهل العلم على اعتبار الأصل في العبادات التزام التعبد وعدم التعليل، والأصل في المعاملات التعليل والالتفات إلى المعاني. وفي المعاملات ذاتها يميزون بين ما هو معقول المعنى وما هو تعبدي.

ويرى عدد من أهل العلم أنه “ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة، يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه”[17]. و”للشارع في أحكام العبادات أسرار لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل، وإن أدركتها جملة”[18]. ويرى الدكتور الريسوني -اقتباسا من الشاطبي- بأن ما ورد من تفاصيل في العبادات وعجز البعض عن معرفة عللها فإنه يمكن تعليلها بمقصد الضبط والحسم وهو أمر معهود مرعي في الشرائع والقوانين.

أمثلة:

– مقصد ذكر الله تعالى ومقصد النهي عن الفحشاء والمنكر من تشريع الصلاة. ﴿وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون﴾[العنكبوت،45]

– مقصد التقوى من الصيام.﴿ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾[البقرة،183]

– مقصد تحقيق المنافع من الحج. ﴿وأذن في الناس بالحج ياتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات”[الحج،27-28]

6- مصطلحات: العلة والحكمة والمصلحة والمقصد والمناسبة

الحكمة والمقصد والمصلحة تستعمل بمعنى واحد ويراد بها الغاية التي تتحقق من الحكم الشرعي والتي من أجلها شُرِع، فيقولون مثلا: الحكمة والمقصد من رخصة القصر والإفطار رفع المشقة عن المكلف.

والأصل في العلة أنها مرادفة للحكمة والمقصد، ثم استعملت للدلالة على الوصف الظاهر المنضبط، فأصبحت علة القصر هي السفر ورفع المشقة حكمته. والعلة بهذا الاعتبار هي مظنة الحكمة والمقصد.

أما المناسبة فيقصد بها تناسب الحكم وتلاؤمه مع المصلحة المجلوبة أو المفسدة المدفوعة، بمعنى تناسب الحكم مع علته وحكمته ومقصده، وهذا التناسب يكون من الوضوح بحيث يغني عن ذكر العلة. ومثاله: الأمر بالصدق والأمانة والوفاء وبر الوالدين…والنهي عن الكذب والخيانة والعقوق…

7- المصالح والمفاسد: المفهوم، ودور العقل

  • معنى المصلحة والمفسدة:

مفهوم المصلحة: المصلحة هي كل لذة ومتعة، جسمية كانت أو نفسية أو عقلية، دنيوية وأخروية[19].

مفهوم المفسدة: هي كل ألم أو عذاب، جسميا كان أو نفسيا أو عقليا أو روحيا، دنيويا أو أخرويا[20].

  • العقل ومعرفة المصالح والمفاسد:

اصطُحب الخلاف الكلامي في مسألة التحسين والتقبيح إلى المجال الأصولي فاختلفت أنظار الأصوليين في طريق معرفة وإثبات المصالح والمفاسد تبعا لمذاهبهم الكلامية.

فالإمام الشاطبي متحدثا بلسان الأشاعرة لا يرى دخلا للعقل في معرفة المصالح والمفاسد، فالمعتبر في الموضوع هو تقريرات الشرع الحكيم فقط. فــ”الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح”، و”كون المصلحة مصلحة هو مِن قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس”[21].

وذهب المعتزلة إلى أن الحسن والقبح ذاتيين في الأشياء، وأن العقل يدركهما قبل ورود الشرع، وبالتالي أوجبوا التكليف على العاقل قبل ورود الرسالة. فعندهم يثبت التكليف الشرعي بالعقل كما يثبت بالشرع.

ووقف الماتريدية موقفا وسطا فقالوا بكون الحسن والقبح ذاتيين في الأفعال وتدركهما العقول السليمة، لكن لا تكليف إلا بوجود الشرع. وهو أقرب المذاهب إلى التحقيق والصواب.

وللعقل مجال رحب في التفسير المصلحي للنصوص ومحاولة تعقل مصلحة النص الشرعي، وكذا العمل على تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة تبعا لتغير الظروف والأحوال، كما له دور معتبر في تقدير المصالح المرسلة التي وإن لم تشهد لها نصوص بعينها فقد شهدت قطعيات الشريعة لجنسها بالاعتبار والإعمال.

والمرفوض قطعا في هذا الباب هو تحكيم الهوى العقول الكليلة، واتباع المصالح المتوهمة وحظوظ النفس الأمارة بالسوء.

8- الاستقراء والتوظيف الشاطبي:

  • مفهوم الاستقراء induction:

الاستقراء في اللغة: معناه التفحص والتتبع، واصطلاحا: يقصد به استنتاج حكم كلي من تفحص وتتبع جزئياته.

  • أنواعه: للاستقراء نوعان معروفان، وهما: الاستقراء التام والاستقراء الناقص.

فالتام هو الاستدلال على الحكم الكلي بكل جزئياته، والناقص هو الاستدلال على الحكم الكلي ببعض جزئياته.

  • توظيف الإمام الشاطبي للاستقراء:

يميز الإمام الشاطبي بين الاستقراء التام والاستقراء الأكثري (الناقص) وكلاهما يفيد القطع عنده. يقول في الموافقات: “وتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا. وأيضا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي”[22].

وقد وظف الإمام الشاطبي الاستقراء في إثبات قضايا كثيرة منها:

– صياغة أدلة قطعية. “وإنما الأدلة المعتبرة هنا: المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت القطع”[23].

– إثبات التعليل في الشريعة، وأنها معللة برعاية المصالح. “والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد”[24].

– إثبات المقاصد الشرعية، ومراتب المصالح الثلاث: الضرورية والحاجية والتحسينية.

– إثبات العموم المعنوي المقابل للعموم اللفظي.

9- الكليات (الضروريات) الخمس:

الكليات الخمس أو الضروريات الخمس: يقصد بها حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال. وعبّر البعض بالنسب بدل النسل والنسل أشمل.

  • الكليات الخمس: التأصيل والترتيب
  • أ – تأصيل الكليات الخمس:

الكليات الخمس تأصلت في القرآن الكريم وتفصلت في السنة الشريفة، وشرعت لها حدود عقابا لمن ينتهكها، وهي محفوظة في جميع الشرائع. ومن الآيات الجامعة الدالة على الكليات الخمس قول الله -تعالى-: ﴿قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلّا بِالحَقِّ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلونَ وَلا تَقرَبوا مالَ اليَتيمِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ بِالقِسطِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلّا وُسعَها وَإِذا قُلتُم فَاعدِلوا وَلَو كانَ ذا قُربى وَبِعَهدِ اللَّـهِ أَوفوا ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾[الأنعام،151-152-153].

– حفظ الدين: تضافرت النصوص القرآنية على مقصد حفظ الدين وتصحيح الإيمان وتثبيت عقيدة التوحيد وتشريع الجهاد دفاعا عنه. من ذلك قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾[المائدة،3] وقوله تعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾[آل عمران،85]، وقوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾[آل عمران،169]

وفي السنة المطهرة أحاديث ضافية منها حديث جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان.

حفظ النفس: كقوله تعالى ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾[الأنعام،151]، وقوله تعالى: ﴿وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت﴾[التكوير،8]، وقوله تعالى: ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص﴾[المائدة،45] وقوله تعالى: ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾[البقرة،195]

حفظ النسل: كقوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن﴾[]، وقوله تعالى: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر﴾[النور،2]

حفظ العقل: يعتبر داخلا في حفظ النفس، ومن الأدلة الخاصة على حفظه قوله تعالى: ﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾[المائدة،90]

حفظ المال: كقوله تعالى: ﴿ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما﴾[النساء،5]كقوله تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله﴾[المائدة،38]

  • ب – ترتيب الكليات الخمس:

اختلف ترتيب كثير من العلماء للضروريات الخمس في كتبهم، بل قد نجد اختلاف الترتيب يتكرر داخل المصنف الواحد، مما يوحي بأن الغرض كان مجرد الجمع لا غير.

لكن علماء آخرين نصوا على الترتيب، ومنهم من قدم الدين على الأربع، ومنهم من قدم النفس والعقل على الدين، ومنهم من قدم العقل على النسل… وذكروا لذلك تعليلات.

والواقع أن الضَّروريات الخمس متفاوتةٌ فيما بينها في قوّة الضَّرورة، فحفظُ أصل الدِّين يُسترخصُ لأجله النَّفس والمال كحال الجهاد في سبيل الله، لكن قد يُقدّم حفظ النفس على فروع الدّين كحال كشف العورات عند التداوي. وحفظُ النَّفس مُقدَّم على حفظ المال فإنَّها تُفتَدَى به، والمالُ يُمكن استدراكُ ما يفوت منه بخلاف النَّفس. وحفظُ العِرض بالعفَّة من الزِّنا يُفتَدى بالمال، بل بالنَّفس. وحفظُ العقل يُغتفرُ فيه ما لا يُغْتفرُ في غيره من الضَّروريَّات بالعُذر، ودرجاتُ ذلك مُتفاوتة باعتبارات تُدركُ من أحكام الإكراه وحال الضَّرورة.

وعليه يكون القول بالترتيب صحيح من حيث الجملة، وإن كانت تعتريه تغيرات بحسب اعتبارات معينة.

  • الكليات الخمس بين الحصر والإضافة:

أول من نص على حصر هذه الخمس هو الإمام الغزالي وتابعه الأصوليون في ذلك.

ودليل الحصر علتان:

الأولى: أن “الحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الواقع، والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة.”[25] فهذه الخمس تغطي جميع جوانب الحياة الإنسانية، ولا يوجد شيء من ضرورات الحياة يخرج عنها.

والعلة الثانية: ورود الحدود الشرعية عقابا لمن ينتهكها. ولذلك زاد الطوفي ضروريا سادسا وهو العرض – وتبعه ابن السبكي وغيره في ذلك- بحجة ورود عقوبة القذف فيه. وردّ آخرون هذه الزيادة باعتبار العرض يندرج في ضروري النسل.

بالمقابل رأى آخرون من أهل العلم كابن تيمية وابن عاشور وغيرهما ضرورة إعادة النظر في مرتبة الضروريات تدقيقا في الخمس المقررة وإضافة ما يمكن إضافته إليها.

وحجتهم أن تحديد المصالح الضرورية لا يكتفى فيه بالنظر إلى مقررات الشرع فحسب، بل لابد من الالتفات إلى الظروف المتباينة التي تنزل فيها تلك المقررات. بمعنى أن الحصر في الخمس هو حصر تاريخي ناسب ظروف وأحوال مجتمع القائلين به، وعليه قد تستجد ظروف أخرى تفرز ضروريات أخرى ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، وخصوصا ما يتعلق بالحياة الاجتماعية، ومَثّل بعض المعاصرين لذلك بحفظ الدولة وحفظ الأمن وحفظ الكرامة الإنسانية، والشغل والخبز والمسكن والحق في التعبير والعلاج، والحرية والمساواة، والعدل…”[26].

وعند التحقيق نجد بأن الاختلاف قائم على ضبط المفهوم وتحديد دلالاته، فإذا اعتبرنا تلك الخمس أصولا كبرى وكليات عامة فلا شك أن ما اقترحه ويقترحه أهل النظر يمكن أن يندرج ضمن تلك الخمس المحددة باعتباره تفصيلات وتفريعات لها. أما إذا اعتبرنا تلك الخمس دالة على معان وأعيان محددة ضيقة فالقول بالمراجعة له حظه من الوجاهة. والمسألة اجتهادية.

  • الكليات الخمس بين الحفظ والطلب:

حفظ الكليات الخمس يكون من جانب الوجود ومن جانب العدم.

فحفظها من جانب الوجود بتشريع ما يقيمهما ويؤسسها ويديمها من أحكام وتكاليف.

وأما حفظها من جانب العدم فبتشريع ما يحميها ويصونها من الانتهاك والاعتداء ويدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع.

المقصد حفظه من جانب الوجود حفظه من جانب العدم
حفظ الدين تشريع العبادات بأنواعها… تشريع الجهاد، النهي عن الابتداع…
حفظ النفس حق الحياة، حلية الطيبات…، الزواج… تشريع القصاص، تحريم الانتحار والإجهاض…
حفظ النسل الزواج، أحكام الأسرة، العفة، الحياء… تحريم الزنى واللواط والتبرج، والقذف…
حفظ العقل طلب العلوم النافعة، النظر والتفكر… تحريم المسكرات والخبائث…
حفظ المال حلية الكسب والمعاملات… تحريم الربا والقمار والميسر والسرقة…

وفيما يتعلق بالصيغة، فعندما تكون الشريعة محكمة في حياة الناس الخاصة والعامة، مرعية مقاصدها، فإن أفضل صيغة هي الحفظ. أما والحال خلاف ذلك فإن الحديث عن الحفظ لا يستقيم، فالأولى النهوض لطلب ما فات، والتعبير بصيغة الطلب.

كما أن حديث أهل المقاصد غالبا ما ينصب على الحفظ من جانب العدم وهو ما تجسده مقررات الشريعة في تشريعها الجنائي الرامي للذود عن الحمى والحرمات والذي في غالبه منوط بدولة الإسلام ومؤسساتها القضائية.

بالمقابل نجد ندرة في التركيز على الحفظ من جانب الوجود وما يقتضيه من تحديد واضح للمسؤول المخاطب بغرس قيم التدين والتخلق والامتثال لشريعة رب العالمين سواء على مستوى الذمة الفردية (الفرد) أو الذمة الجماعية (الأمة). ومن ثم العمل على بناء مؤسسات الدعوة الراشدة الكفيلة بتحقيق تلك المقاصد الشريفة.

10- مراتب المصالح: ضروريات وحاجيات وتحسينيات

  • معنى الضروريات والحاجيات والتحسينيات:

– الضروريات: وهي التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت فاتت سعادة الدارين وحل الشقاء الدنيوي والخسران الأخروي. وضابطها الاضطرار إليها.

والمصالح الضرورية خمسة، وهي: الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

– الحاجيات: وهي المصالح التي ينتظم بها نظام الأمة على وجه حسن، وإذا فقدت لم يتعرض للاختلال، ولكن لم يجر على رفع الحرج والمشقة المقصودين شرعا. وضابطها الاحتياج إليها.

ومثالها: تشريع أحكام من شأنها رفع الحرج والمشقة عن المكلفين كالرخص في العبادات والمعاملات…

– التحسينيات: وهي المصالح التي يكون بها كمال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة ولها بهجة منظر المجتمع من خلال الأخذ بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق، وإذا فقدت تصبح الحياة مستقبحة في تقدير الشرع وتقدير العقلاء.

ومثالها: تشريع أحكام الزينة في اللباس والهيئات، والحث على النظافة والطهارة، والإرشاد إلى آداب الأكل والشرب والنوم…

  • العلاقة بين مراتب المصالح الثلاث:

يؤكد أهل المقاصد على أن بين مراتب المصالح الثلاث تفاوتا وترابطا، فمن جهة تقدم الضروريات على الحاجيات والتحسينيات لأنها أصل لها، كما تقدم الحاجيات على التحسينيات، وأساس هذا الترتيب هو قوة المصالح وشدة الحاجة إليها.

ومن جهة ثانية فالحاجيّات والتحسينات تُكمّل الضروريّات وتُتمّمها، والتحسينات مُكمِّلة للحاجيّات. كما يؤدي الخلل في الضروريات إلى الخلل في الحاجيات والتحسينيات، أما الخلل في الحاجيات والتحسينيات فيؤدي إلى الخلل في الضروريات من وجه ما فقط ولا تختل بالكلية.

11- طرق إثبات المقاصد:

لإثبات مقاصد الأحكام هناك طرق خمسة، وهي:

  • مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي: فالأوامر تدل على القصد إلى حصول المأمورات، والنواهي تدل على القصد إلى منع حصول المنهيات.
  • اعتبار علل الأمر والنهي: كالأمر بالنكاح لمصلحة التناسل، والأمر بالبيع لمصلحة الانتفاع بالمبيع.
  • المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية: فالتعبد قصد أصلي في طلب العلم، ونيل المنزلة الرفيعة والمنقبة الحميدة مقاصد تابعة.
  • سكوت الشارع: فسكوت الشارع مع وجود الداعي المقتضي للبيان دليل على قصد الاكتفاء بما شرع كما هو.
  • الاستقراء: تضافر جزئيات كثيرة على مقصد يدل على مطلوبيته للشارع على سبيل القطع. كحفظ الكليات الخمس.

أما مقاصد الخطاب فأهم وسيلة لإثباتها فهي المقام بفرعيه: المقام المقالي(نفس الخطاب اللغوي)، والمقام الحالي(معهود العرب حال التنزيل).

12- مناط الحكم واعتبار المآل…. مجال النظر المقاصدي:

  • المناط:
  • تعريف المناط: هو الوصف الذي يناط به الحكم ومن معانيه (العلة)، ومن المقرر أنَّ الحكم يدور مع علَّته وجودا وعدما.
  • تخريج المناط: بذل المجتهد الجهد لاستخراج علة حكم شرعي.

مثاله: استخراج الفقهاء علَّة الإسكار في تحريم الخمر.

  • تنقيح المناط: بذل المجتهد الجهد لاستبعاد الأوصاف غير مؤثرة في الحكم، واستبقاء الوصف المؤثر لتعليل الحكم به.

مثاله: الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه جامع زوجته في نهار رمضان عمداً فأوجب عليه النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة.

فهاهنا خمسة أوصاف: أنه أعرابي، جامع زوجته، وقوع الجماع في رمضان، وتحديدا في نهار رمضان، وفعل الجماع متعمدا.

ومن خلال البحث عن العلة المؤثرة في الحكم من بين هذه العلل الخمس نجد أنه لا يصح واحد من تلك الأوصاف أن تكون علة لوجوب الكفارة سوى أن يكون قد جامع في نهار رمضان متعمدا.

  • تحقيق المناط: تحقق المجتهد من وجود العلَّة نفسها التي ثبتت في الحكم الشرعي الأصلي في الفرع المقيس.

مثاله: حديث أبي قتادة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنه قال في الهرة: “إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات”، فقد صرح النص بالحكم وهو طهارة الهرة وسؤرها، وصرح بالعلة، وهي أنها من الحيوانات الأهلية الطوافة في البيت، لكن هل ينطبق الحكم على الفأرة؟ هنا يقوم المجتهد بتحقيق المناط، أي يتحقق من وجود العلة في الفرع.

  • اعتبار المآل:
  • تعريف المآل: أصل الكلمة آل الشيء يؤول أوْلًا ومآلًا، بمعنى رجع، والموئِل المرجع. واستعمل هذا المعنى في المعاني، فقيل: آل الأمر إلى كذا، أي: عاد ورجع. والمراد بالمآل عند أهل المقاصد: ما قد يترتب على الفعل بعد وقوعه.

والنظر في المآلات: هو مراعاة ما يرجع إليه الفعل بعد وقوعه، وما يترتب عليه، وآثاره الناتجة منه، فيأخذ الفعل بهذا النظر حكمًا يتفق مع ما يرجع إليه ويؤول إليه ذلك الفعل، سواء قصده الفاعل أم لا.

والنظر في مآلات الأفعال معتبَرٌ ومقصود شرعًا، سواء كانت هذه الأفعال مأذونًا فيها شرعًا أو منهيًّا عنها، فعلى المجتهد قبْل الحكم على فعل من أفعال المكلفين أن ينظر إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يرى أن الفعل مشروع لمصلحة فيه، أو ممنوع منه لمفسدة فيه، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإطلاق القول في الأول بالمشروعية دون نظر إلى مآله، وفي الثاني بالمنع دون نظر إلى مآله تعجل لا ثمرة له، إذ قد يؤدي الفعل الأول إلى مفسدة مساوية أو زائدة على المصلحة التي رُئِيت فيه في بادئ الأمر، وكذلك الفعل الآخر فقد يؤدي إلى دفع مفسدة مساوية أو زائدة. ولذلك اعتبر النظر في المآل أصلًا من أصول الشريعة.

يقول الشَّاطبي –رحمه الله-: “وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤدِّ ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غيرَ لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية”

وليس النظر في المآل من صفة كل عالم أو متعلم، بل هو صفة خاصة لا تتحصل إلا للعالم الراسخ في العلم، وهو العالم الرباني الحكيم، فذلك بحقٍّ من خصائصه المتعلقة به.

قال الشَّاطبي في خصائص المجتهد الراسخ في العلم: “والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب على السؤالات”.

وقد عمِل العلماء – كما يرى الشَّاطبي – بهذا الأصل، فمالك عوَّل عليه في سد الذرائع، ومنع الحيل، ومراعاة الخلاف، والقول بالاستحسان، كما عمل بهذه القاعدة حينما أفتى المنصور حين استشاره أن يهدم البيت، ثم يبنيه على قواعد إبراهيم – عليه السلام – فقال له مالك: “لا تفعل، لئلا يتلاعب الناس ببيت الله”، فصرفه عن رأيه سدًّا لمآل فاسد، وهو أن يتخذ التلاعب بالبيت سنَّة تابعة لاجتهادات الحكام وآرائهم فلا يستقر على حال. وقد تبع مالكًا أصحابه في أخذهم بتلك القواعد، كما أن غيره من العلماء قد أخذوا بقاعدة: رفع الحرج، والأخذ بالرُّخَص، وهي راجعة إلى هذا الأصل.

فقاعدة رفع الحرج مبنية في غالبها على هذا الأصل، لأنها في الغالب إباحة لعمل ممنوع في أصله مراعاة لما يؤول إليه من الرفق المشروع. وجميع ما رخص الشارع فيه، فإنه راجع إلى قاعدة رفع الحرج، لأن حقيقة هذه الرُّخَص راجعة إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي المنع، ولو بقي عليه لكان في ذلك حرجٌ ومشقة.

وقاعدة سد الذرائع راجعة إلى هذا الأصل، لأنها في حقيقة الأمر تذرُّع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، أو توسُّل بما هو مصلحة إلى مفسدة، وسواء من عمل بهذه القاعدة أو من منعها فإنهم كلهم عاملون بأصل النظر في المآل، فهم متفقون على أنه لا يجوز سبُّ الأصنام، لأن ذلك سببٌ لسبِّ الله، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام، 108].

والحمد لله رب العالمين.

————

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.

  1. ابن السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج. دار الكتب العلمية-بيروت 1416ه/1995م
  2. ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الكتب العلمية. ط1، 1411ه/1991م
  3. ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تح. أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة بيروت.
  4. ابن عاشور محمد الطاهر ، مقاصد الشريعة الإسلامية ص 55، دار السلام للطباعة والنشر. مصر، ط4، 2009/1430ه
  5. ابن منظور، محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري جمال الدين أبو الفضل ، لسان العرب، دار صادر – بيروت.
  6. الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام تح. عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي بيروت.
  7. الحسني إسماعيل، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416ه/1995م
  8. الخادمي نور الدين ، الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، كتاب الأمة العدد 65، ط1، 1419ه/ 1998م
  9. الرازي فخر الدين ، المحصول في علم أصول الفقه، تح. طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، ط3، 1418ه/1997م.
  10. الرازي محمد بن أبي بكر بن عبد القادر، مختار الصحاح، مكتبة لبنان سنة النشر: 1986
  11. الريسوني أحمد ، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي. ط3، 1430ه/2009م
  12. علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص 3، مكتبة الوحدة العربية.
  13. الغزالي أبو حامد، المستصفى من علم الأصول، تح. حمزة بن زهير، شركة المدينة المنورة للطباعة.
  14. الفيومي أحمد بن محمد بن علي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي.
  15. الكيلاني إبراهيم ، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضا ودراسة وتحليلا ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1421ه/2000م

[1] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، مادة (قصد) ص 260 – 261، مختار الصحاح للرازي مادة (قصد) ص 254

[2] وقد يعتبر قول الغزالي رحمه الله في المستصفى2/481 “ومقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم ” تعريفا للمقاصد. أو تقسيم الشاطبي رحمه لله للمقاصد إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلف باعتباره تعريفا لها بالتقسيم.

[3] محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية ص 55، دار السلام للطباعة والنشر. مصر، ط4، 2009/1430ه

[4] المصدر نفسه ص 163.

[5] علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص 3، مكتبة الوحدة العربية.

[6] أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص 7، المعهد العالمي للفكر الإسلامي. ط3، 1430ه/2009م

[7] نور الدين الخادمي، الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته 1/52-53، كتاب الأمة العدد 65، ط1، 1419ه/ 1998م

[8] إبراهيم الكيلاني، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضا ودراسة وتحليلا ص 47، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1421ه/2000م

[9] إسماعيل الحسني، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور ص 119، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416ه/1995م

[10] ابن منظور، لسان العرب، مادة(علل) 2/868

[11] المصباح المنير للفيومي 2/77

[12] ابن السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج 3/62

[13] انظر: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 8/102-103

[14] فخر الدين الرازي، المحصول في علم أصول الفقه 2/237

[15] المصدر نفسه 2/242

[16] المصدر نفسه 2/242

[17] ابن القيم، إعلام الموقعين 2/86

[18] المصدر نفسه 2/107

[19] الريسوني، نظرية المقاصد ص 229

[20] الريسوني، نظرية المقاصد ص 229

[21] الموافقات 2/315

[22] الموافقات 2/53

[23] الموافقات 1/36-37

[24] الموافقات 2/6

[25] الآمدي، الإحكام 3/394

[26] انظر على سبيل المثال: إسماعيل الحسني، نظرية المقاصد ص 296-299

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *