الحصة الثالثة من الدورة التدريبية في مهارات الاجتهاد المقاصدي
تقرير: ذ. عبد الله اصبيحي
واصل المركز العلمي للنظر المقاصدي في القضايا المعاصرة يوم الإثنين 30نونبر 2020م ثالث أيام الدورة التدريبية في موضوع: “مهارات الاجتهاد المقاصدي” والتي يؤطرها الدكتور سالم الشيخي عن بعد عبر تطبيق زوم.
انطلقت هذه الحصة على الساعة السادسة وخمس دقائق مساء بالتوقيت الدولي، بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، لِيُذَكِّرَ مدير الدورة الدكتور ربيع حمو بأعمال هذه الحصة التدريبية لهذا اليوم وأنها تنحصر في أمور أربعة وهي:
1- تعليق الأستاذ المؤطر – حفظه الله تعالى- على أعمال المجموعات
2- مناقشة مع مؤطر الدورة حول أعمال الورشة الأولى
3-تقديم المهارة الثانية: مهارة الإلحاق بمراتب المصالح الثلاثة
4- عمل الورشات التطبيقية للمهارة الثانية
ليعطي الكلمة لفضيلة الدكتور سالم الشيخي، والذي بدوره بين أنه اطلع على أعمال المجموعات التطبيقية وأنه استخلص بعض الملاحظات منها:
* الملاحظة الأولى:
إن أغلب المجموعات وقعت في خطأ استخراج الأحكام الجزئية ثم إلحاقها بكلي من الكليات الشرعية، ولم يعتمدوا التحليل المقاصدي الذي ينظر إلى جانب المصلحة والمفسدة، وبين أن الناظر في النازلة أو الحكم الشرعي ينبغي أن يستبطن أن هذا الحكم هو نتاج موازنة، والموازنة لا تكون إلا بين اثنين…
وضرب مثالا بالتطبيق الأول في قوله تعالى: (( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم)) فقال: بأن من ذكروا في تحليلهم: تحريم أكل الميتة، لم يصلوا إلى المراد بالتحليل المقاصدي، فالواجب أن يقال: في الآية : مفسدة أكل الميتة و مفسدة الموت جوعا…
وكذا في قوله تعالى: (( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)) فمن قال: في الآية تحريم سب آلهة المشركين، لم يحلل مقاصديا، وإنما ذكر حكما ظاهريا في الآية، فالتحليل المقاصدي يقتضي أن يقول: في الآية: مصلحة التقليل من شأن الآلهة المعبودة من دون الله تعالى، وفيها مفسدة سب الذات الإلهية.
ثم انتقل إلى المثال الثالث في قوله تعالى: (( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)) فقال: بأن التحليل المقاصدي يجعلنا نقول بأن النص يشتمل على مفسدة المرض وهي ملحقة بكلي النفس، ومصلحة الصيام وهي ملحقة بكلي الدين، ولذلك جاءت الموازنة بين مصلحة الصيام ومفسدة المرض، وقد كان العلماء الأولون مقاصديين؛ لما قسموا المرض إلى مراتب، فمنه الضروري الذي يحرم معه الصيام، ومنه غير ذلك…
أما المثال الرابع في قوله تعالى: (( قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي)) فقال : بأنه مشتمل على مفسدة التفريق بين بني إسرائيل ومصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر…
ثم انتقل – حفظه الله تعالى- إلى التطبيقات الحديثية، فبين أن الذين قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل} بجواز النظر إلى المخطوبة، هو خطأ في التحليل المقاصدي، بل الواجب أن يقال: بأن هناك مفسدة النظر المتعمد، ومصلحة انقطاع العشرة، وعند الموازنة نوازن بين مفسدة النظر التي لا تعدو أن تكون من التحسيني، وبين مفسدة انقطاع العشرة التي لا تعدو أن تكون من الحاجي، وكلاهما ملحق بكلي النسل.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (( أحي والداك، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)) بين أن فيه تزاحما بين مصلحة الجهاد الملحقة بكلي الدين، ومصلحة بر الوالدين الملحقة بكلي النفس، وأن التقديم لبر الوالدين هنا جاء وفقا لمرتبة الجهاد المذكور في الحديث؛ لأن الجهاد أنواع: فالضروري يخرج فيه المسلم دون استئذان أبويه، أما المذكور في الحديث فهو الجهاد الكفائي وهو لا يعدو أن يكون حاجيا، وبر الوالدين ملحق بكلي النفس وهو ضروري؛ فلذلك قدم الضروري على الحاجي.
ثم انتقل – حفظه الله تعالى- إلى الفتاوى، ومنها فتوى الامتناع عن قطع يد السارق عام المجاعة، فبين أن الفتوى فيها مصلحة إقامة حد السرقة أو مفسدة ترك إقامة الشريعة، ومفسدة الجوع.
وأما في فتوى ترك صلاة الجمعة لرعاية الأم المريضة، بين أنها مشتملة على مفسدة المرض وهي ملحقة بكلي النفس وبين مصلحة إقامة الجمعة وهي ملحفة بكلي الدين، ونبه – أكرمه الله تعالى- إلى أن بعض المعايير الخارجية تتدخل في الموازنة ومن ذلك: إن كل ما له بدل يقدم على ما ليس له بدل، والجمعة لها بدل وهي الظهر، ولذلك قدمت رعاية الأم.
*الملاحظة الثانية:
عدم استيفاء التحليل من طرف المجموعات، بمعنى آخر: كان هناك نقص في التحليل، والنقص في التحليل قد يهمل المصلحة أو المفسدة فيترتب على ذلك أخطاء مقاصدية، وأرشد إلى أن أغلب الأخطاء في النوازل تكون بسبب عدم الفهم الكامل للمصالح أو المفاسد المرتبطة بتلك النازلة.
* الملاحظة الثالثة:
الإلحاق الخاطئ ، فالإلحاق بكلي من كليات الشريعة خطأ، سيترتب عليه خطأ في الاجتهاد، ومثال ذلك: مفسدة أكل الخنزير في المثال الأول من الأمثلة التطبيقية القرآنية، فقد ألحقها بعض المجموعات بكلي النسل؛ اعتبارا لما شاع من أن أكل لحم الخنزير يصيب بالدياثة، بينما الإلحاق الصحيح أن يلحق بكلي الدين؛ لأن أكل لحم الخنزير أمر تعبدي… وكذلك سب آلهة المشركين وسبهم لرب العالمين، ألحقه البعض بكلي العقل، والصحيح أن يلحق بكلي الدين
وبعد ملاحظات الأستاذ الكريم القيمة، فتح باب المناقشة والأسئلة، التي تساءل أصحابها :
– هل الواجب النظر إلى ظاهر النص أو الغوص في معانيه؟ وما العمل عند التزاحم بين الأحكام الشرعية؟ وما العمل عند تعارض النص والمصلحة؟ وما هي الوظيفة التشريعية للقصص القرآني؟ وهل هناك ارتباط بين المقاصد والنسخ في القرآن الكريم؟ وكيف ننظر مقاصديا لمسألة الردة؟ وغير ذلك من الأسئلة المرتبطة بقضية الإلحاق بالكليات الخمس.وطلب منه تزويد المتدربين بقواعد الموازنة.
فبين – أكرمه الله تعالى- بأننا في دورة تدريبية ولسنا في دورة تعليمية تأصلية، فالمفترض أن الملتحق بهذه الدورة عنده قدر كاف من علم المقاصد، وأنه عند تحليل نص قرآني لا ينبغي أن يعتبر المحلل نفسه في درس تفسير، بل هو معني بتحليل النصوص القرآنية وغيرها تحليلا مقاصديا.
وبين أن الأحكام الشرعية جميعها إنما جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وأن كل حكم شرعي إنما جاء لتحقيق مصلحة إذا كان طلبيَّ الفعل، أو درء مفسدة إن كان طلبيَّ الترك. وأن الأحكام الشرعية والتي لها 17 مرتبة أولها مختلف فيه هل هو الواجب الضروري؟ أم المحرم لذاته؟ كلها تتضمن جلب مصلحة أو درء مفسدة.
وأرشد الشيخ – حفظه الله تعالى- إلى أنه ليس هناك تعارض بين النص والمصلحة، وأن ما يقال عنه تعارض بينهما في حقيقته يكون تعارضا بين مصلحة للمكلف ومفسدة شرعية، وأعطى مثالا لذلك بمسألة الربا.
وأما مسألة قتل المرتد فليس مرتبطا بالكفر فقط كما ظن ذلك بعض الفقهاء، وإنما هو مرتبط بالكفر مع الخروج عن الجماعة- كما هو رأي الأحناف- أو ما يسمى في عصرنا بالخيانة العظمى.
ووعد حفظه الله بمد المتدربين بقواعد الموازنة والتي تبلغ ستة وأربعين قاعدة.
وبعد ذلك انتقل – جزاه الله خبر الجزاء- إلى الحديث عن مراتب المصالح الثلاث، معرفا لمفهومها وأنها تنقسم إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، مؤكدا على ضرورة أن يكون المجتهد المقاصدي مدركا لمفهوم هذه المراتب الثلاث حق الفهم.
فالضروريات على ما اختاره الشيخ من تعريف هي: كل ما يؤدي فقده في الدنيا إلى تلف الأصل أو انخرامه، أو زوال قريب من القطع، وما يؤدي فقده في الآخرة إلى دخول النار وحصول العذاب ولو لفترة. وأوضح أنها تنقسم إلى خمس ضروريات وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، ضاربا أمثلة لكل نوع منها.
والحاجيات هي التي يفتقر إليها في التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة. وهي مرتبطة برخص السفر والمرض، والبيوع، والاجارات، والمشاركات، ومراعاة الكفء، ومهر المثل في النكاح – عند بعضهم-
والتحسينيات هي الأخذ بمحاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق مما يرجع إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية…ومن أمثلتها: خصال الفطرة، واجتناب النجاسات، وأحكام التي ترجع إلى ستر العورة والتجمل، والأحكام المتعلقة بآداب الأكل والشرب والتداوي…
وأشار – أطال الله عمره- إلى بعض التنبيهات المهمة منها:
– أن الحكم قد يكون واجبا وهو ملحق بالتحسينبات…
– كل حكم شرعي يتضمن المراتب الثلاث، فالصلاة مثلا فيها الضروري والحاجي والتحسيني
– لا ينبغي الغفلة عن الفساد الواقع وكذا المتوقع.
-أكثر حاجات المسلمين اليوم، هي حاجات عامة.
– الحاجي إذا أضيف إليه العموم ينزل منزلة الضروري الخاص.
– يقدم الضروري الخاص على الحاجي العام ( الشاطبي)
– كل ما كان من الكبائر في الأغلب فملحقه بالضروريات.
– المحرم لغيره يلحق بالحاجيات في أغلبه.
– كل الصغائر دائرة بين الحاجي و التحسيني، والبعض يجعلها جميعا داخلة تحت التحسيني.
– كل المندوبات ملحقة بجانب التحسينيات.
وفي الأخير فتح باب التدخلات والمناقشات والأسئلة والتي أفاض الشيخ فيها بعلمه، وبين ما أشكل برأيه السديد- جزاه الله خيرا- ليرفع الدكتور ربيع حمو الجلسة داعيا المجموعات الفرعية أن تشتغل على التطبيقات المتعلقة بمهارة الإلحاق بالمراتب الثلاث.
والحمد لله رب العالمين
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *