مع الخطاب “النّقدي” لمصدرية السنّة: قراءة في المفاهيم والقضايا

مع الخطاب “النّقدي” لمصدرية السنّة: قراءة في المفاهيم  والقضايا

د. محمد جعواني

 

1- توطئة:

نقصدُ بالخطاب النّقديِّ مجموعَ الأطروحاتِ النّظريةِ التي تناولتْ موضوعَ “مصدريّةِ” السنّةِ النبويةِ، بِعُدَّة مفاهيميةٍ ومنهجيةٍ تحليلية نقديّة، وانتهتْ بالتّشكيكِ في “حُجِّيَّةِ” معظمِ السنّة. (السنّة الآحادية).

ويمكنُ التّمييزُ ضمنَ ذلكَ الخطابِ النّقديِّ بين مُكوِّنَيْنِ كبيرَين، يختلفانِ من حيثُ الخلفيةُ الفكريةُ والمرجعيةُ التشريعيّةُ والقصديةُ النّفسيةُ.

الفريقُ الأوّلُ: يُمثِّلُه رُوادُ الاستشراقِ وتلامذَتُهم من أبناء جِلدتِنا.

الفريقُ الثّاني: يُمثِّلُه باحثونَ أكاديميّونَ من داخل النَّسق الإسلامي.

أمّا الفريقُ الأوّل، فلا تخفى على اللّبيبِ مرجعيةُ أفكارِه وقصْديّةُ حركتِه.

فالرُّوادُ المستشرقونَ هم أبناءُ المرجعيةِ الفكريةِ الغربيةِ بكلِّ حُمُولَتِها العَدائيةِ للدّينِ، المُنتشيةِ بِفلسفةِ الأنوار المُعْشِيةِ عن الحقّ، المؤلِّهةِ للعقل المتفلسفِ المغرور، المُمَجِّدةِ للحرّيةِ البهيميّةِ المُشْرَعةِ الأبواب، المبشِّرةِ بحضارة العمّ سام، حضارةِ الغابِ والبقاءِ للأقوى.

أمّا التّلاميذُ النُّجباءُ فَهُم أكثرَ “تغرُّباً” من أساتذِتهم الغربيين أنفسِهم.

وهذا الفريقُ قصديتُّه الخبيثةُ لا تخفى على ذي بصيرة، ونيّاتُ أهلهِ السيّئةُ جَلَّتْها كتاباتُهم الطّاعنة، وكشَفتها بحوثُهم المشوَّهةُ، المشوِّهةُ للحقيقة…

ولكلِّ ذلك، سأضربُ عنهم صفحاً، ولا أُعيرُهم ذِكْراً.

وأمّا الفريقُ الثّاني فأصحابُه يَعُدُّون أنفسَهم من أهلِ الدّار، ويُعلنون أنّهم لا يريدونَ إلاّ الإصلاح ما استطاعوا، وأنَّ قصدَهم الذّبُّ عن حِياض الإسلام و”تجديدُه” خطاباً وممارسةً، وإزالةُ ما علِق به ممّا ليس منه، أصولا وفروعا…

والحقُّ أنّ مع بعضِ هؤلاء بعضاً من الحقِّ لا يمكن إنكارُه، وبعضاً من الصّواب لا يمكن تجاهلُه.

ومع بعض أطروحات هؤلاء سنتفاكر، وحول مفاهيم وقضايا خطابِهم سنتحاور.

2- مقدّماتٌ مؤطّرةٌ للأطروحة: توصيفٌ وتشخيصٌ

قال النّاقد: إنَّ أُمَّتَنا تعيشُ أزمةً وخللاً على صُعُدٍ ومستويات متعدّدة. وأصولُ الخللِ ومكامنُه ذاتيةٌ في تاريخِنا، وهي سابقةٌ زمَنًا على الفِعل الخارجي الموضوعي.

وتتمثّل جذور الأزمة في ثُلاثيةِ:

الاستبدادِ والقهرِ، وتغييبِ النصّ المؤسِّس، وضمورِ القيم الشّرعية الإنسانية.

ولذلك وجَبَ التّمييزُ بين إسلام “النصِّ” الملزِمِ الثّابت بالوحي، وإسلام “التّاريخ” غير الملزِمِ المعبَّرِ عنه في أنظمة الحكم والقواعد الاجتهادية.

وعلى العقل المسلم المعاصر أن يختارَ بين حقيقةِ الإسلام وسُمْعَتِه، وبين التّضحية بتلك القداسة الزّائفة التي أضفاها السَّلف على “التُّراث”، وتحديدا على أخبار الآحاد الواردة في الصّحيحين وفي غيرهما. مع التّخلصِ من عُقدة “المؤامرة” والحساسيةِ المُفرِطة حُيال “النّقد” المرادفِ عند البعض لـ”النّفي”.

قلت: لا شكّ أن هذا التّوصيفَ والتّشخيصَ فيه كثيرٌ من الدِّقّة والصّواب، فأوّلُ انكسارٍ تاريخيٍّ في الأمّة كان في طبيعةِ “سُلطتها” السياسية التي انتقلت من الشّورى إلى التّوريث، فنتج عن ذلك تمايزٌ بين مرجعية “الوحي” ومرجعية “الهوى”، أدّى إلى محنةِ العقل المسلم، وسِجالٍ حادٍّ – دمويٍّ أحياناً – بين سلطة “القلم” وسلطة “السّيف”، وما تلا كلَّ ذلك من آثار على “العلم” و”المعرفة” أوّلا، ثمّ على “الشّهود الحضاري للأمّة” ثانياً.

كما أنّ التّمييز بين “الشّريعة” المعصومة ومنظومة “التّراث” الاجتهادي لا ينكره باحث مستنير، لكن ليس إلى درجة “التّغاير” الكلّي، المُفضي إلى “التّقابل الحَدِّي”.

فـ”التُّراثُ” اجتهادٌ بشريٌّ تنزيليٌّ للشّريعة، وابنٌ شرعيٌّ أصيلٌ لها، لكن ليس إلى درجة “التّماهي” المطلق، المفضي إلى القداسة والعصمة.

وليس لدينا إلا إسلامٌ واحدٌ ووحيدٌ هو الذي بلَّغه النبيُّ الأمين عليه الصّلاة والسّلام وتحمَّلَ أمانةَ بيانِه العلماءُ الربّانيون في كلِّ عَصْرٍ ومَصْرٍ.

أمّا النّقدُ والتّقويمُ فلا يرفضُه إلا الضّعيف الأبله، ولكن شتّان بين النّقد (بالدّال المهملة) والنّقض (بالضّاد المعجمة).

وأمّا عن سُمعة الإسلام، فالإسلام بخيرٍ وإلى خيرٍ، والمقبِلون عليه في ازديادٍ ولله الحمدُ والمنّة، والمنصِفون منصِفون اليومَ وبالأمسِ وفي الغدِ، ولا عَزاءَ للمؤجَّرين.

3- مفاهيم وقضايا أساسية:

  • مفهوم “الإلزام”: التّشريعُ بين “دائرة الإلزام” و”دائرة الإباحة”

قال النّاقد: يُعتبَرُ مفهومُ “الإلزامِ” حجرَ الزّاوية في بناء العملية التّشريعية والفقهية بوجه عام.

والحُكم الملزِم عندنا هو: ما ثبتَ حصراً بالنصِّ القطعيٍّ وبصيغةٍ مُحكَمةٍ، إيجابًا أو تحريمًا، وما عداه فهو في دائرة المباح (ندبًا أو كراهةً أو إباحةً مطلقة).

ولا إلزام بـ “قياس”، ولا “إجماع” ولا “خبر آحادٍ” ولا بغير ذلك من الطُّرُقِ الظنّية.

والأدلّة على ذلك ثلاثة:

العقل: فالحُجِّية لازِمٌ عقليٌّ لليقين، وعليه فلا إلزام إلا بالقطعيِّ اليقيني.

أسسُ التّوحيد: فالانتقال من دائرة “الإلزام” إلى دائرة “المباح” أو العكس من غير موجب، له آثاره على أسس التّوحيد. إذِ الحاكمية والتّشريع لله وحده، فهو الحاكِم والمشرِّع وهو صاحب الإلزام لا غير.

نصوصُ الوحي: ومنها قولُه تعالى: “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ”[الشّورى، 8] وقولُه سبحانه: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” [يوسف، 67]

ثمّ إنّ دائرةَ “الإباحة” وثيقة الصّلة بقيمة الحرّية الإنسانية، وكلّما اتّسعت دائرة “الإلزام” ضاقَت مساحة الحرّية والاختيار.

قلتُ: كلامٌ صحيحٌ إجمالاً، فالحاكمُ هو الله سبحانه وحده لا شريك له “أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ”[الأعراف، 55] وتلك حقيقةٌ مُقرَّرةٌ يعرفها طالب الأصول. وقد أذِن ربُّنا لنبيّه الكريم بوظيفة البيان عنه ” وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ”[النّحل، 44]، فكانت سُنّتُه وحيًا من الوحي.” وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ” [النّجم، 3-4]

والزَّعمُ بأنّ الضّمير في الآية عائد على القرآن حصراً لا يُسلَّم، فالآيةُ وإن كانت صريحةً في وحي القرآن، فإنّها متضمِّنةٌ لوحي السنّة. إذ المعلوم أنّ من سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم ما هو وحيٌ صريحٌ ومنها ما هو اجتهاد نبوي، ولمَّا تقرَّرَ أنّه عليه الصّلاة والسّلام لا يُقَرُّ على الخطأ في اجتهاداته، فقد آلَ الأمرُ إلى الوحي.

والنتيجة أنّ كلَّ ما صدر عن النبي العدنان هو من مشكاة الوحي، ابتداء أو انتهاء.

كما أن الادّعاءَ بأنّ لفظة “البيان” في الآية لا تعدو أن تكون “إظهاراً” هو تمسّكٌ ببعض مدلول اللّفظ وتركٌ لمدلولات أصيلةٍ عند أرباب اللّسان. فالبيان تفسيرٌ وتفصيلٌ للمجمل، وتخصيصٌ للعامّ، وتقييدٌ للمطلق. وتلك حقيقةُ وظيفةِ البيان.

أمّا مجرّدُ “الإظهار” و”التّوصيل” فذاك من وظيفة “التّبليغ” التي لا خلاف بشأنها.

ثمّ إنّ أهل التّحقيق أضافوا وظيفة ثالثة للنبي الكريم عليه الصّلاة والسّلام وهي وظيفة “التّشريع” على سبيل القياس كتحريم السنّة الجمع في الزواج بين المرأة وخالتها أو عمّتها قياساً على تحريم القرآن للجمع بين المرأة وأختها بجامع علّة قطع الأرحام. أو على سبيل التّرجيح والإلحاق كتحريم لحوم الحُمُر الأهلية وإلحاقها بالخبائث المحرّمة الأكل.

أو بالتّأسيس كتشريع الاتجاه إلى بيت المقدس في الصّلاة، وتشريع الوضوء قبل نزول آية المائدة.

وعليه فالإلزام يكون بالنصِّ الصّحيح الصّريح، القطعي والظنّي، كتاباً وسنَّةً. ثمّ بما ثبت بالأصول المعتبرَة النّقليّة والعقليّة. وقد بذلت الأمّةُ في مجموعها جُهداً استثنائيا في الحفظ والتّمحيص والتّوثيق للنص الحديثي.

أمّا عن تأثير دائرة “الإلزام” على مساحة “الحرّية”، فتلك وجهةٌ غيرُ وِجهتِنا، فنحن نرى بأنّ التّحرّر الكامل هو بالخضوع الكلّي لدائرة الشّرع المعصوم، فراراً من أهواء النّفوس العليلة، وشبهات العقول الكليلة، ومستنقعات الغرائز والشّهوات السّحيقة.

  • مفهوم النصّ الشّرعي:

قال النّاقد: ففي البدءِ كان النصُّ ولا غير، والإسلامُ هو النصُّ ولا غير. والنصُّ مطلقٌ متعالٍ عن الزّمان والمكان والأشخاص.

وينبغي الانتباهُ للميلادِ المزدوِج “للنص”، فعندنا نصّان:

“نصٌّ خالصٌ” وُلد لحظة النّزول، و”نصٌّ مُدوَّنٌ” وُلِدَ لحظة التّدوين النّهائي المنظَّم.

هذا “النصُّ المدوَّنُ” بموجِبِه تمَّ حشرُ الأحاديثِ الآحادية في مُسمّى “السنّة”، ثمَّ اعتُبِرَتْ تلك السنّةُ مصدرا مرجعيا بإزاء القرآن، وهو ما شكَّلَ نقطة تحوُّلٍ خطيرةً في تاريخ الإسلام والمسلمين.

فهل يمكن أن يكون “المصدرُ المرجعيُّ” غيرَ قطعيٍّ في ثبوته؟ وهل يُلزمُنا الشَّرعُ بأحكامٍ من غير طريق قطعيٍّ واضحٍ وجليٍّ للجميع؟

قلت: صدقتَ، فالنصُّ مصدرُ المعرفة الشّرعية ومنبَعُها، وعنه تفرّعت علومُه الخادمةُ له توثيقًا وتحليلاً، سنداً ومتناً، علومَ مناهجَ وعلومَ نتائجَ.

والنصُّ المعتبرُ عندنا واحدٌ لا اثنين، وهو الذي ثبتَ وصحَّ عن المعصوم عليه الصّلاة والسّلام قرآنا وسنّة، وبلَّغُه العدولُ الثّقاتُ، وقد وُجِد هذا النصُّ وكان محفوظا مُحكَّمًا متداولاً في واقع النّاس، ثمَّ تمَّ جَمْعُه وتدوينُه -هو نفسُه- في الصّحُف.

ثمّ إنّ طلبَ القطعِ في الرِّواية والخبرِ مرغوب عزيزٌ، وحياةُ النّاس في جليلِ أمورِهم قائمةٌ على خبر الآحاد، ولذلك اكتُفِي بالظنِّ الرّاجح عن القطع.

مع العلم أنّ أصولَ العقائدِ والعملِ ثابتةٌ بالقطع المحقَّق.

ولحكمةٍ بالغةٍ شاء الله أن تتكفّلَ الأمّةُ بمجموعها بحفظ “السنّة” نقلا وتوثيقا وفهما وإعمالاً.

  • مفهوم السنّة:

قال النّاقد: السنَّةُ حقيقةً هي بيانٌ لمراد الله في الكتاب على وجه مفارق لنَصِّه، وتستغرقُها تقريبا الأفعالُ العملية للنبي صلى الله عليه وسلم كالصلاة والزكاة والحج.

وهذا هو معنى السنّةِ حقيقةً. وأفعالُ النبي صلى الله عليه وسلم على ضربين:

الأوّل: أفعال ضرورية لتنفيذ الأوامر القرآنية من صلاة وزكاة… فهذا من السنة بلا جدال لثبوته بالتواتر العملي.

الثّاني: أفعالٌ وأقوال آحاد، ليست ضروريةً لقيام الدّين، لذلك لم تُنقل بالتّواتر، وعاشَ المسلمون قرنا من الزمن وهي غيرُ مدوّنةٍ مسطورة.

وهذا الضّربُ الثّاني ينبغي عرضُه وتقويمه بقواطع القرآن والسنّةِ العمليةِ ومبادئِ العقول وحقائقِ الحسِّ والتّاريخ. وإذا صحَّ فهو غير ملزمٍ لأنّ غالبَه مرتبطٌ بسياقات زمنيةٍ وتفاصيلَ محدَّدة، فهو مخصوصٌ بأسبابه ولا عمومَ فيه ولا تأبيدَ.

وزِد على ذلكَ “بشريةُ” الرّسول صلى الله عليه وسلم، وتصرُّفاتُه بالإمامة.

قلت: لقد ضيّقتَ واسعاً، فالسنّة أوسعُ من ذلك وأشمل، فهي أقوال وأفعال وتقريرات.

ومنها المتواترُ والآحاد، ومنها التّشريعيةُ وغيرُ التّشريعية، والتّشريعيةُ منها العامّةُ والخاصّة، والخاصّةُ منها المتعلِّقُ بالذات الشّريفة، ومنها المتعلِّقُ بالوصف كالإمامة والقضاء ونحو ذلك.

وأمّا عرضُ الرّواية على قواطع القرآن ومبادئ العقل وحقائق الحسّ والتّاريخ فذاك عينُ صنيعِ النقّادِ الجهابذة، الذين خبَرُوا الرّواية وأتقنوا الصّنعةَ، فميّزوا الجيّدَ من الرّديء، والسّليمَ من العليل، والأصيل من البَهْرَجِ. ووضعُوا معالم واضحةٍ، وضوابط كابحةٍ، تصدّت لحركةِ “الوضع والاختلاق” في الرّواية، وكشَفت دوافِعَها وأسبابَها وخلفيّاتِها. وأمامكَ كُتُبُ “الضُّعفاء” و”المجروحين” و”المتروكين”، و”الموضوعات” … لتَرى أنّ صاحب هذه الدّعوى استفاق متأخّراً ففاته الرّكبُ…ويا للأسف.

ثمّ إنّ الأصلَ في النصِّ الشّرعيِّ عمومُ “الدّلالة” ولا يُقالُ بالخُصوصيةِ إلا بدليل. و”العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب”.

والسنّة وحي مطلقٌ في الزّمان والمكان والأشخاص، وليست زمنيةً نسبيةً تاريخية.

وكونُها لم تُدوّنْ لا يعني عدَم وجودِها وإعمالِها، والجمعُ دليلُ الوجودِ.

أمّا المقامات النّبوية في التّصرّفات فمحفوظة مرعية وليست من بِدْعِ قولكم، ورحم اللهُ القرافيَ صاحبَ ” الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأَحكام وتصرُّفات القاضي والإمام”.

قضيّةُ النّهي عن التّدوين:

قال النّاقد: كان القصد النّبوي من النهي عن التّدوين أن تتَّسِعَ “دائرة المباح” وتقلَّ دائرة الإلزام، فيُفتَحَ بابُ الاجتهادِ، فيمتزجَ الدّينُ بالحياة، وتمتزجَ الحياةُ بالدين.

فالنّهيُ عن التدوين كان غَرَضُه أن لا يُتّخَذَ الحديثُ دِينًا عاما كالقرآن، فأغلبُه كان زمنياً مرتبطًا بمُلابَساته وظروفِه. وقد فهمَ الصحابة المرادَ وعمومَ النّهي فكَفُّوا عن التّدوين، وحديثُ أبي شاهٍ وتدويناتُ بعضِ الصّحابة حالاتٌ مخصوصة.

وحُجَّةُ رَبْطِ النّهي بخَشية “الاختلاط” بالقرآن لا تصحّ، لتمايُزِ القرآن عن الحديث إعجازا، ولعربية الصّحابة ومُكنتهم اللّغوية…

أضف إلى ذلك موقفَ عُمَرَ رضي الله عنه من منع الصحابة من التّحديث والاقتصار على القرآن.

قلت: أمّا عدمُ التّدوين زمن النبوّة ففيه جانب ذاتي وجانب موضوعي.

فالجانب الموضوعي يظهرُ في قِلَّة الكتَبةِ حينئذٍ (لم يتجاوزوا سبعةَ عشرَ كاتِبًا في مكّة)، ولكون العرب أصحابَ ثقافةٍ شفهية تعتمد الحفظَ وقوّةَ الذّاكرةِ عوض الكتابة والتّدوين.

والجانبُ الذّاتي فيتَمثَّلُ في إعطاء الأولوية لكتابة القرآن “النصِّ المقدّس” الذي ينبغي أن يُحفَظَ في الصُّدور والسُّطور، بحروفه وألفاظه، من غير زيادة ولا نُقصان. بخلاف السنّة التي يجوز فيها الرّواية بالمعنى بشروط معروفة.

وفي هذا السّياقِ – أقصدُ سياقَ الحفاظ على النص القرآني – يُفسَّرُ النّهي عن الكتابة بكونه نهياً عن كتابة الحديث مع القرآن في موضعٍ واحدٍ، فيقَعُ الخَلط بينهما سهوا بغير قصدٍ، وهو توجيه وجيه.

أضف إلى ذلك أنّ النّهيَ عن الكتابة في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رافَقَه في نفس الرّواية الإذنُ بالتّحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

أخرج الإمامُ مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ، قَالَ هَمَّامٌ: أَحْسِبُهُ قَالَ: مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ”.

وأخرج الإمام أبو داود عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كنتُ أكتُبُ كلَّ شيءٍ أسمَعُهُ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أُريدُ حِفْظَهُ، فنهَتْني قريشٌ، وقالوا: أتكتُبُ كلَّ شيءٍ تسمَعُهُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشَرٌ يتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا؟! فأمسَكْتُ عَنِ الكِتابِ، فذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأَوْمأَ بإِصْبَعِهِ إلى فِيهِ، فقال: اكتُبْ؛ فوالذي نفْسي بيدِهِ، ما يخرُجُ منه إلَّا حقٌّ”.

زِدْ على ذلك قصّةَ أبي شاهٍ وصحيفةَ عليٍّ، وكتابَ عمرُو بنُ حزمٍ رضي الله عنهم.

أمّا عن الفاروق عمرَ رضي الله عنه فقد فاقت مروياتُه خمسَمِائة حديثٍ، وكان أشدَّ اتّباعاً للسنّة تأسّيا بها وحِرصاً على مجالِسها. وتشديدُه في الرّواية إنّما كان حرصاً على نقاء السنّة وصفائِها، والتّقليلِ من الرّواية وحصْر مصادر التّحديث.

قضية علم الحديث:

قال النّاقد: إنّ نشأةَ علمِ الحديثِ دليلُ وجودِ حالةٍ من “الطّلب” على الرِّواية أدّت إلى زيادةٍ في “العَرْضِ” للمَرويّات.

فهل استطاع علمُ الحديث وَقْفَ “العَبث” و”التقوُّلِ” في السنَّة؟ وما مدى “حياديةِ” و”موضوعيةِ” القائمين على تدوينِ السنّة؟ وما مدى غيابِ “الانتقائيةِ” في التَّدوين، استجابةً لدوافعَ فكريةٍ أو سياسيةٍ أو مذهبيةٍ. (محنةُ خَلْقِ القرآن نموذجاً).

وما مدى السّلامةِ من تأثيرِ “التّاريخ السياسي” على العقل المسلم، ومنه على “الجرح والتّعديل” ثمّ على عملية تدوين “السنّة”.

إنّ علمَ الحديث التّقليديِّ لم تتوَّفر له أدواتُ النَّقدِ الكافيةِ لتنقيةِ النصِّ السُّنِّي من الشّوائبِ تنقيةً تامّة، وغربلةَ “الوَضْع” في الأحاديث. وكان على علمِ الحديثِ الاكتفاءُ بالمتواتِر المستفيضِ أو المشهور الشَّائِع دون فتح الباب لكلِّ خبر.

فالأحاديثُ لم تُنقَل بسياقاتِها وملابساتِها، واكتفى الرّواةُ بنصوصٍ مقتضبةٍ في شكل تشريعات، مع روايتها بالمعنى.

والصّحابةُ ليسوا معصومين عن النّقد، وينبغي مراجعة مفهوم الصُّحبة والعدالة.

ثمَّ إنّ القطعَ بصحَّةِ أخبار الآحاد في الصّحيحين مذهبٌ فاسد، والنَّقدُ القديم للصّحيحين كان للإسناد فحسب، والأولى أن ينصبَّ على المتن بالقواعد السّابقة.

قلت: لا شكَّ أنّ ميلاد علم الحديث – كغيره من العلوم- يعبِّر عن حاجة اقتضاها واقع فشوِّ الرّوايات وتداول الأخبار المتعلّقة بالجناب الشّريف عليه الصّلاة والسّلام، والرّغبة في التثبُّت وصيانة الحديث الشّريف ممّا ليس منه.

وهذا الأمر لم يكن وليد عصر التّدوين الرّسمي، وإنّما بدأ قبل ذلك بكثير زمن الرّعيل الأوّل صحابة الرّسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم، ثمّ تتابع بعدهم.

ولا جدال في أثر “التّصنيفات” المذهبية (سنّة، شيعة، معتزلة، خوارج…) للرّواة في طريقة التّعامل مع مرويّاتهم قبولا أو ردًّا، لكن ليس بناءً على الهوى والتشهّي، وإنّما وِفق معايير علمية أقرب إلى الحياد والنّزاهة، حرِصت على سلامة “المرويّ” وأصالته ولو كان الرّاوي له قناعاته الفكرية المختلفة. (مثال قبول رواية المبتدع الذي لا يدعو إلى بدعته).

ومع ذلك، فقد وقعت بعض “التجاوزات” التي لا يسلَم منها الفعلُ البشري، والتي لم تُؤثِّر كثيرا على المسار العامّ لعملية التّدوين.

أمّا عن قصور المنهج والأدوات، والتّركيز في النّقد على السّند وإغفال المتن. فإن تعجَب فاعجَبْ لهذا القولِ. فمئات الكتب في “الأسماء والكنى والألقاب” و”المتّفِق والمفترِق” و”المُؤتَلِف والمختلِف” و”الطّبقات” و”التّراجم” و”المَشْيَخاتِ” و”الثّقات والمجروحين والضُّعفاء” والقائمة طويلة من الجهود التي أحصَتْ على الرّواة نُفوسَهم أنفاسَهم، وكشَفَت هُوّياتِهم وهواياتهم، وعرَّفتهم للعالَمِين عيناً وحالاً.

ثمّ مباحثُ “الشُّذوذ” و” النَّكارَة” و”العِلل” و”الإدراج” و”الغريب” و”المُشْكِل” وغيرها من نفائِس العمل النّقديِّ الجادِّ التي غربلَت المتون وميّزت في ألفاظها بين الأصيل والدّخيل.

أمّا الرّواة من الصّحابة الكرام فهم العدول الثِّقات رضي الله عنهم وأرضاهم.

4- في الختام:

قال النّاقد: خُطوتان وأنتُم على المسار الصّحيح:

تنحيةُ المصادر اللاّنَصيةِ وإعادةُ قراءةِ وكتابةِ “أصولِ الفقه”. ثمَّ حذفُ كلِّ الإضافات التي حصَلت على نصِّ السنّةِ، وإعادةِ قراءةِ وكتابةِ علم الحديث.

قلت: نُصْحٌ مأجورٌ إذا صحَّت النية والقصدُ. وإنّنا لا نبخسُ النّاسَ جهودَهم وفضلَهم، فَبعضٌ ممّا تقولون حريٌّ باعتباره واستثماره. لكن، ليس التّجديدُ بالضّرورة إلغاءً وتشطيباً، بل هو عملٌ واعٍ من أهله وفي محلّه، يعيد الأمور إلى نصابها ومقدارها، بمراعاة مستجدّات الزّمان والمكان، ويجمع بين فقه النص ومتطلبات العصر.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *