تحرير الأقوال الاجتهادية في شأن فوائد القروض التفضيلية

تحرير الأقوال الاجتهادية في شأن فوائد القروض التفضيلية

أثارت فتوى للدكتور أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بشأن فوائد القروض التفضيلية، نقاشا علميا واسعا، تناسلت فيه فتاوى وردود علمية من علماء وباحثين يدافع فيها كل فريق عن رأيه ويناقش الرأي الآخر بأقل عبارة وأوضح حجة، من غير تجريح أو تلامز أو تنابز.

فالدكتور الريسوني أفتى بجواز استفادة المحتاجين من أرباب المشاريع الصغرى من قروض بنكية مدعمة من الدولة بنسب فائدة تفضيلية (في حدود 2%  في المجال الحضري، و1,75%  في المجال القروي)، معللا ذلك بأن الفائدة اليسيرة في هذا القرض تُخرجه من كونه ربويا إلى كونه قرضا إحسانيا اجتماعيا وقرضا حسنا لا شبهة ولا ربا فيه، وحتى لو كان ربح قليل فالربح القليل أقرب إلى الحل وأقل إثما من الزيادات الربحية المرتفعة.

كما علل الريسوني فتواه بأن الفائدة في هذا القرض غير ربحية، لأن هذه النسبة لا تعطي ربحا يذكر، وإنما هي لتسديد نفقات وأجور الموظفين والخبراء الدارسين والمتابعين للملفات مع المقترضين، سواء بشكل مساو أو أقل أو أكثر قليلا، وكذلك من أجل ضمان الخسائر المحتملة جراء إفلاس بعض المقترضين أو وفاتهم حتى لا يتضرر البنك جراء هذه العوارض، كما علل أيضا دافع المقترضين في هذه المعاملات  بالضرورة والحاجة الملجئة، كضرورة السكن والزواج وغير ذلك، عملا بقاعدتي: “الضرورات تبيح المحظورات”، و” الحاجات تنزل منزلة الضرورات”.

وقال بتجويز هذا القرض تبعا لفضيلة الدكتور أحمد الريسوني الأستاذ عادل رفوش، معللا ذلك بكون الفتوى من أبواب التيسير على المسلمين والشباب والمحتاجين خاصة،  وبأنها رخصة جاءت لدافع معين، وفي حيز ضيق، لسبب من الأسباب، كما يقال في عموم الرخص.

كما قال بتجويزه عمر الكتاني الخبير الاقتصادي في المالية التشاركية  معتبرا أن نسبة الفائدة في هذه القروض منخفظة جدا وهو ما يدفع إلى القول باعتبارها غير ربوية، لأنه ليس لديها هدف ربحي وإنما اجتماعي، وانتقد الكتاني غياب البنوك التشاركية عن مثل هذه المبادرات، وهي التي يمكن أن تكون بديلا عن هذه المعاملات والأقرب لدعم المقاولات لأنها إسلامية، والإسلامية معناها أن تنفع وليس فقط غرضها الربح، كما انتقد أيضا الأوقاف التي غابت عن تمويل هذا البرنامج علماً أن لديها فائض.

ودافع الدكتور عبد الله الجباري عن البرنامج الذي صدرت فتوى الريسوني بشأنه معتبرا أنه برنامج خاص، محدد في الزمان، وأن أي حديث عن القانون العام للمعاملات الربوية فهو حديث في حالة شرود، لأنه لا بد من تضييق الكلام حول المشروع فقط، مبينا أن البرنامج من رأسمال 8 مليار، ليست كلها من الأبناك، لأن 3 ملايير فقط هي التي من الأبناك، و3  ميارات أخرى من الخزينة العامة للدولة، و2 من صندوق الحسن الثاني.

وفي مقابل ذلك، رد على فتوى الريسوني، وعلى من أيدها ودافع عنها، عدد من المتخصصين والعلماء والباحثين، منهم الخبير الاقتصادي محمد محفوظ، وعلماء وأساتذة جامعيون وباحثون كالدكتور فؤاد بلمودن، والدكتور عبد الحميد بنعلي، والدكتور محمد طلال لحلو، والدكتور عبد الرحمن زحل، والأستاذ إسماعيل بن علي بن عبد الله ادعيكل.

وفيما يلي أهم الأقوال واالاجتهادات في الرد على ذلك[1]:

في كون الفائدة يسيرة:

يؤكد الأستاذ محمد محفوظ، وهو محاسب خبير، أن المقترض إضافة إلى اعترافه بالدين والفوائد، والتزامه بأدائه في آجالها، ودفع فوائد التأخير المركبة (الزيادة على الفوائد الأصلية كلما زادت مدة التأخير، وهو عين ربا النسيئة)، والاكتتاب في التأمين التجاري للأقساط في حالة العجز أو الوفاة، فإن النسبة ليست ثابتة في 2 %  مثلا، لأنها تصل في 10 سنوات إلى 11 %  وفي عشرين سنة إلى 22% وهكذا، ويؤكد كذلك على أن نسبة 2% نسبة مربحة لأن غالبية القروض السكنية في أوروبا مثلا لا تتجاوز 1%.

ثم إن الفائدة الربوية كما بين الدكتور عبد الحميد بنعلي لا يشترط لتحريمها أن تكون كثيرة، وإنما قليلها وكثيرها سواء، فتحرم كل زيادة كثيرة كانت أم قليلة، وقد حرمت الشريعة الإسلامية جملة من البيوع بسبب جهالة التساوي بين أصنافها مثل بيع الصبرة من الطعام بالصبرة منه وهو بيع الجزاف، والقاعدة أن “الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل”، كما حرمت بيع التمر بالرطب، لما كان الرطب يؤول إلى النقص إذا جف، وهي علة منصوصة، وقاس عليها الفقهاء كل ما هو مثله.

ومعلوم -حسب الدكتور فؤاد بلمودن- أنه مما استقر علیه نظر المجامع الفقھیة مشرقا ومغربا، والمتفق علیه بین الباحثین المعاصرین أن الفائدة كلھا ربا ولو كانت بنسبة 1 في المائة، وأن ما سماه الدكتور الريسوني مصاريف ونفقات الملف فھي في الأصل مقدار محدد من المال لا ینبغي أن یتأثر بقیمة الصفقة زیادة أو نقصانا، بخلاف الفائدة المحددة -كما في حالة القروض التفضيلية- التي تختلف عائداتھا بحسب مقدار الدین، فمصاریف ملف شراء سیارة مثلا قیمتھ 5 آلاف درھم لا ینبغي أن تتغیر سواء كانت السیارة ب 10 ملایین أو عشرین، بینما عائدات الفائدة في القرض تتغیر حسب قیمة القرض ومدة سداده وضمانات الفرد.

وبناء على ذلك -يقرر الدكتور بلمودن- أن فوائد البنوك في مثل هذه المعاملات سواء قلت أو كثرت ھي عین الربا، والقول بأن الفائدة القلیلة بنسبة 2 في المائة جائزة، قول شاذ لا یشھد له دلیل شرعي، والقول به یوقع في التناقض والتخبط لأنه سیجعل الحكم الشرعي یتأثر بمقدار الربا كثرة ونقصانا، والنص حرم الربا قلیلھا وكثیرھا، فحرم اكل الربا أضعافا مضاعفة، كما حرم ما بقي من الربا؛ “لا تاكلوا الربا اضعافا مضاعفة” “ذروا ما بقي من الربا”.

كما أنه من المعلوم -الدكتور إسماعيل بن علي بن عبد الله ادعيكل-  أن القرض مع زيادة من جنسها مما أجمع العلماء على تحريمه قليلا كان أو كثيرا، فالنازلة إذن تدخل ضمن (الربا) المقطوع بتحريمه لا ضمن سلف جر نفعا المختلف في تحقيق مناطه، وأن اعتبار المقاصد في باب الربا خصوصا يقتضي سد الذرائع لا فتحها، كما يقتضي القول بالمنع لا الإباحة، وكما يقتضي التشديد لا التوسعة، ومن استقرى قواعد أصول الربويات وجد أن العلماء احتاطوا غاية الاحتياط فقد قضوا بمنع جملة من العقود التي هي إما في أصلها ربا أو ذريعة إلى الربا.

في كون الفائدة غير ربحية:

وأول ما يرد به على الدكتور الريسوني عدم التسليم بأنها ليست ربحية، لأن ذلك خلاف الواقع باليقين، حيث بين الخبير محمد محفوظ بعد أن استعرض الأرقام السابقة في كونها ليست فائدة يسيرة، مؤكدا أنها قروض مربحة، وهو ما أكده كذلك الدكتور فؤاد بلمودن بأن نسبة 2 في المائة تحقق عائدات ربحیة محترمة للأبناك، وهو نھج سلكته العدید من البنوك الأوربیة والأمریكیة لیس فقط لدواعي اجتماعیة بل لدواع اقتصادیة تتعلق بالموازنة المالیة والحد من التضخم، وعززه الدكتور محمد طلال لحلو معتبرا أن نسبة 1% على 100 مليار جد مربحة، ومبينا أن التضخم في المغرب الآن 0,2%، فلا علاقة له بنسبة 2% المطلوبة، وأن تكاليف دراسة الملف حسب المتخصصين لا تتجاوز 200 درهم كمعدل، وأنه لما كانت المؤسسات إما خيرية أو ربحية، وكانت البنوك مؤسسات ربحية فنتيقن أن القروض ربحية، وهي ربوية، دون أدنى شك.

وهو ما أكده أيضا الدكتور عبد الحميد بنعلي فالبنوك ليست مؤسسات خيرية، وإنما هي مؤسسات ربحية تجارية، وكون هذه الفوائد يسيرة لا يلغي صفة الربح، فاليسير إذا أضيف لليسير صار كثيرا بل مليارات الدولارات، فنحن أمام ملايين المقترضين وليس شخصا وشخصين وثلاثة، ثم إنه على فرض التسليم بأنها ليست ربحية، فلا أثر لهذا الوصف في الإباحة؛ لأن الربا (أي الزيادة) محرم ولو كان لغرض إنساني.

أما القول بكون هذه الفوائد للتغطية على الخسائر المحتملة جراء إفلاس بعض المقترضين أو وفياتهم فمردود كذلك لأن البنك يأخذ كامل احتياطاته حين إقراضه للناس تارة بالرهن، وتارة بمتابعة الورثة، وتارة بالحجز على الممتلكات، والقانون يخول له الحق في ذلك.

في كون القرض للضرورة:

القول بالضرورة الملجئة إلى هذا القرض مردود أولا من جهة كون البنك لا يقرض المعدمين الذي هم المضطرون حقيقة، كما أوضح الدكتور عبد الحميد بنعلي، وإنما يقرض ذوي اليسار الذي يرفع عنهم وصف الاضطرار كالموظفين وذوي الدخل المحدود، ومن لهم ضمانات يمكن استيفاء الدين منها في حال العجز عن الرد والسداد.

ثم إن القول بالضرورة في هذا المجال يفتح الباب أمام الناس لاستباحة الربا كله بحجة الاضطرار، وسد الذرائع مقصد مشروع، والربا في أصله موضوع على الاضطرار ومع ذلك حرمه الشرع، فإن أحدا لا يرضى أن يأخذ العشرة بالعشرين ولا المائة بما هو أكثر منها إلا أن يكون مضطرا.

ومن القول بالضرورة، القول بغياب البدائل، وقد رد غير واحد من العلماء والباحثين على هذا الأمر بكون البنوك التشاركية والمصارف الإسلامية آخذة في الانتشار، رغم ما يؤاخذ عليها من اعتماد بعض المعاملات دون بعض، مما ينبغي التسريع باعتماده والعمل به تنمية للأموال وتخفيفا على العباد كالشركة والمضاربة التي تتلاءم مع حاجة المقاولين التي جاءت فتوى الريسوني مرتبطة بها.

ومن شرط الأخذ بالمحرم عند الاضطرار أن لا يوجد بديل مباح، وهذه الأحوال التي يدعى فيها الاضطرار لأخذ القرض من أجلها لها بدائل مباحة مشروعة، فالسكن مثلا يمكن أن يعتاض عنه بالاستئجار (الكراء)، والزواج في حق غير القادر عليه يعوضه الصيام إلى أن يغنيه الله من فضله.

وهو ما أكده عبد الرحمن زحل موضحا أنه ليس من مقاصد الشريعة الغراء التشجيع والتبرير للحرام في ظل وجود البديل الحلال لمجرد الظن بالمماثلة، فهذا الكتاب المنزَّل علينا من ربنا يصرح فيه الرب جل في عُلاه أن الربح الحرام يخالف الربح الحلال وأن مجرد ظن التماثل بينهما لا يُصيِّره حلالا، بل ينبغي تركه إلى البديل الحلال.


[1] – تنظر المقالات المنشورة على الشبكة في الرد على الدكتور الريسوني، وأهم ما اعتمدت منها:

– فؤاد بلمودن، “تعقیب على تصریح فضیلة الأستاذ الریسوني”.

– عبد الحميد بنعلي، “تحليل ومناقشة مقالة الدكتور أحمد الريسوني في فوائد البنوك”.

– محمد طلال لحلو، الفوائد البنكية اليسيرة.. إبعاد الوهم وتقريب الفهم.

– عبد الرحمن زحل، “ولاء للدكتور لحلو دون البراءة من الدكتور الريسوني، على هامش فتوى جواز الاستفادة من قروض الدعم للمقاولات”.

– محمد محفوظ، “رسالة الى السادة الفقهاء المجيزين لقروض ذات الفائدة القليلة”.

– إسماعيل بن علي بن عبد الله ادعيكل، “مناقشة فضيلة الأستاذ عادل رفوش في تجويزه (قرض برنامج انطلاقة) تبعا لفضيلة الدكتور أحمد الريسوني”.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *