الفكر المقاصدي: مفهومه وضرورته ومقوماته

الفكر المقاصدي: مفهومه وضرورته ومقوماته

أولا: مفهوم الفكر المقاصدي:

     1- معنى المقاصد:

كان العلماء القدامى يعبرون عن مقاصد الشريعة بتعبيرات مختلفة، تتفاوت من حيث مدى تطابقها مع مدلول المقاصد الشرعية ومعناها ومسماها، كالغاية والحكمة والمصلحة والعلل والغرض ونحو ذلك، لذلك لم يبرز على مستوى البحوث والدراسات الشرعية والأصولية تعريف محدد ومفهوم دقيق للمقاصد يحظى بالقبول والاتفاق من قبل كافة العلماء أو أغلبهم، لانصرافهم إلى العمل بها اجتهادا وتطبيقا وتنزيلا، فقد كان جل اهتمامهم الاجتهادي مقتصرا على استحضار تلك المقاصد والعمل بها أثناء الاجتهاد الفقهي، دون أن يولوها حظها من التدوين، تعريفا وتمثيلا وتأصيلا وغير ذلك. فرغم كون الإمام الشاطبي صاحب النقلة النوعية لعلم المقاصد بما قعد له وفصل فيه وجعله مبحثا مستقلا من مباحث أصول الفقه لا يقل عن المباحث الأخرى إن لم يفقها، إلا أن الرجل لم يكن معنيا بالحدود والرسوم، بل كان يرنو إلى مشروع تجديدي لأصول الفقه موجه للعلماء حتى أنه اشترط على من يريد أن “ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريّان في علوم الشريعـة، أصـولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب”[1].

وأما المعاصرون فقد ذكروا تعريفات تتقارب في جملتها من حيث الدلالة على معنى المقاصد ومسماها، ومن حيث بيان بعض متعلقاتها على نحو أمثلتها وأنواعها وغير ذلك.‏

فقد عرف قسميها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بقوله: “مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معاني من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنــواع الأحكام، ولــكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها”[2]، ثم ذكر المقاصد الشرعية الخاصة وبين أنها: “الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة”[3].

أما العلامة عـلال الفاسي فقد نص على أن: “المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها”[4].

واعتبر الدكتور أحمد الريسوني[5]: “مقاصد الشريعة هي الغايات المستهدفة والنتائج والفوائد المرجوة من وضع الشريعة جملة ومن وضع أحكامها تفصيلا”[6]، أو “هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد[7].

واعتبرها الدكتور نور الدين الخادمي هي: “المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها، سواء كانت تلك المعاني حكما جزئيا أم مصالح كلية أم سمات إجمالية وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين”[8].

و هذه التعريفات في جملتها تدور على كون المقاصد تمثل المعاني والأهداف والأسرار التي وضعها الشارع في أحكامه وتشريعاته مما فيه مصلحة للمكلفين في العاجل والآجل.

     2- معنى الفكر المقاصدي:

وكما قال الدكتور أحمد الريسوني فإن كل ما يقدم في تعريف مقاصد الشريعة يمهد لمعرفة المراد بالفكر المقاصدي ويسهل بيان خصائصه ومميزاته، باعتباره فكرا متشبعا “بمعرفة ما تقدم وغيره من معاني مقاصد الشريعة وأسسها ومضامينها، من حيث الاطلاع والفهم والاستيعاب”[9] بل إنه فوق ذلك “هو الذي آمن واستيقن مقصدية الشريعة في كلياتها وجزئياتها، وأن لكل تكليف مقصده أو مقاصده”[10].

وقد خلص الدكتور الريسوني إلى أن “الفكر المقاصدي هو الفكر المتبصر بالمقاصد، المعتمد على قواعدها المستثمر لفوائدها”[11]، وهو كذلك ما دام فكرا يوازن بين النصوص والقواعد المستمدة منها، ويربط بين السبب والمسبب، وبين العلة والأثر المترتب عليها، ويستشرف المآلات والنتائج، ويعتبر المقاصد في الأحكام من حيث: الاستدلال والاستنباط والترجيح وترتب الأثر، بما يحقق صلاحية الشريعة الإسلامية واستمرارها وحاكميتها، ويحقق معنى الاجتهاد المقاصدي.

ثانيا: ضرورة الفكر المقاصدي في الاجتهاد

ويكفي أن نتحدث هنا عن ضرورتين، الأولى شرعية، والثانية عملية.

      1- الضرورة الشرعية:

وتتجلى في كون الشريعة الإسلامية إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، وأن كل ما جاءت به فهو مصلحة، وكل ما نهت عنه فهو مفسدة، ودرؤه مصلحة؛ قال الإمام ابن القيم: “فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله”[12].

ولذلك كانت المصالح هي أساس الفكر المقاصدي، باعتبار المقاصد أولا “غايات ومصالح ومنافع ولذائذ، رُكب في النفس البشرية السعيُ إليها والانجذاب نحوها. فهي زهرة هذا الوجود، ومطمح القلب، وطلبة كل راغب، وبغية كل قاصد، تضع للسالكين مناهج سيرهم، وترسم لهم سبيلهم التي ارتضاها الله لهم خصوصاً، وينبوع الهداية فيها التشريع الإسلامي، ومتفجَّرها ما ورد بشريعتنا الغراء من هدي وحكمة”[13].

ثم لكونها وقع اعتبارها من الشارع نفسه، ويتبين ذلك بجلاء بالرجوع إلى أصول الشريعة الإسلامية؛ حيث نجد “القرآن وسنة رسول الله ﷺ مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة[14].

     2- الضرورة العملية:

وتتجلى في توقف الاجتهاد على العلم بمقاصد الشريعة؛ فما دام الوحي (قرآنا وسنة) يصرح بالمقاصد التي من أجلها شرع الأحكام فإنه تأكيد على ضرورة ربط الأحكام بالمقاصد، تحقيقا للمصالح المرجوة منها، وبالتالي فهي شرط في أهلية الاجتهاد.

واشتراط العلم بمقاصد الشريعة في أهلية الاجتهاد هو قول المحققين من الفقهاء والأصوليين؛ بحيث أن “من لم يكن عالما بالمقاصد فاهما لها غير قادر على الوصول إليها ولا معرفتها لا يكون أهلاً للاجتهاد، بل يحرُم عليه الاجتهاد، لأنّ غير المجتهد لا يجوز له أنْ يجتهد، ومن لم يتأهّل للاجتهاد فكيف يتعرّض للاجتهاد؟”[15].

وسأذكر هنا ثلاثة نصوص صريحة في ذلك، الأول لإمام الحرمين الجويني الذي ينص في مدخل كتابه البرهان على أن التفطن للمقاصد شرط للتبصر بالشريعة، بقوله: “ومن لم يتفطّن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي، فليس على بصيرة في وضع الشريعة”[16].

والنص الثاني لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي حصر الفقه في الدين في معرفة مقاصد الشريعة وحكمها بقوله: “الفقه في الدّين هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها”[17].

والنص الثالث لشيخ المقاصد الإمام الشاطبي الذي حصر شروط التأهّل للاجتهاد في الاتّصاف بفهم المقاصد والقدرة على الاستنباط بناءً على ذلك الفهم، بقوله: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها”[18].

وبناء على هذه الضرورة العملية فقد قرر الإمام محمد الطاهر بن عاشور بعد أن استعرض مَحالَّ اجتهاد المجتهدين في أدلة الشريعة، إلى أنَّ “أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني بحال عن معرفة المقاصد الشرعية”[19]، وأن المقاصد تدخل في جميع المناحي الاجتهادية.

وبناء على كل ما سبق يتضح أن الفكر المقاصدي أصل أصيل وضرورة شرعية وعملية لضمان صلاحية الشريعة واستمرارية حاكميتها، وأن الاجتهاد المقاصدي سبيل ذلك.

ثالثا: مقومات الفكر المقاصدي:

يقوم الفكر المقاصدي على ثلاثة مقومات أساسية من شأنها أن توصل المجتهد المتمكن منها إلى تحقيق المطلوب الشرعي من الاجتهاد، وهي:

     1- تعلق الفكر المقاصدي بفقه النص

من المقطوع به في علم أصول الفقه أن الأحكام الشرعية كيفما كانت لا بد لها من أدلة شرعية تستند إليها، وهذه الأدلة كلها عند التحقيق ترجع إلى القواعد العامة والكليات التي جاءت بها النصوص الشرعية وما تفرع عنها من أصول معتمدة في الاستدلال، وما تضمنتها مقاصدها التي شرعت من أجل تحقيقها، والتي لا بد لها من مجتهد يفقهها ويستحضرها في نظره واجتهاده، وفق الشروط والضوابط المعينة لفهم النص الشرعي.

ومن الحقائق المسلمة -كما وصفها الدكتور يوسف القرضاوي-: “أن الشريعة الإسلامية قد وسعت العالم الإسلامي كله، على تنائي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية، وتجدد مشكلاته الزمنية، وأنها –بمصادرها ونصوصها وقواعدها- لم تقف يوما من الأيام مكتوفة اليدين أو مغلولة الرجلين، أمام وقائع الحياة المتغيرة، منذ عهد الصحابة فمن بعدهم، وأنها ظلت القانون المقدس المعمول به في بلاد الإسلام”[20].

ولما كانت الأحكام راجعة إلى النصوص، وكان من المقرر المقطوع به عند علماء المسلمين -كما سبق- أن الشريعة مبنية على تحقيق المصالح، فإنه يمكن القول بأن النصوص الشرعية إنما جاءت لتحقيق المصالح، وأنه لا فتوى ولا حكم فيما ينزل بالناس إلا لتحقيق مصلحة، سواء أخذت من النصوص الجزئية أو من روحها ومقاصدها العامة.

لأن الاجتهـاد “يتجاوز النص إلى الروح، ويتعدى المنطوق إلى المفهوم وينظر في أحوال الناس كما ينظر في أحوال الألفاظ ويعالج التعارض بين المصلحة والمفسدة كما يعالج التعـارض بـين الظـاهر والمؤول وبين العام والخاص وبين المطلق والمقيد وبين الحقيقة والمجاز ويدفع تعارض النص مع المصلحة بالترجيح أو الجمع، كما يدفع أي تعارض وتدافع، فالاجتهاد لا ينبني على النص اللفظي فقط بحيث لا يتعدى البحث فيه ولا يتجاوز النظر في ألفاظه بل يتعدى إلـى كـل مـا ذكرنا”[21].

وقد قرر الدكتور الريسوني في عرضه للمناهج التي عنيت بتفسير النصوص الشرعية عموما، وتفسير نصوص القرآن الكريم خصوصا أن الاتجاه المقاصدي “ينطلق –دائما- من كون صاحب النص له مقاصد معينة ومعان محددة عنده، هي التي أراد تبليغها للمخاطب، وأراد من المخاطب فهمها واستيعابها وأخذا بعين الاعتبار، وأن اللازم هو تحري مقاصد الخطاب كما يريدها صاحبه والوقوف عندها، بلا نقصان ولا قصور، وأيضا بلا زيادة ولا تجاوز”[22].

وهكذا يكون الاجتهاد المطلوب لفهم النص اجتهادا مقاصديا؛ وهو الضامن لتحقيق المقصود الشرعي من الأحكام، والضامن لخلود الشريعة الإسلامية وصلاحيتها عبر امتداد الأزمنة والأمكنة، خاصة وأن النصوص محدودة متناهية، ووقائع الناس غير محدودة ولا متناهية.

      2- ارتباط الفكر المقاصدي بفقه الواقع

لقد تقرر سابقا أن غاية تنزيل النصوص هو تحقيق المصالح التي جاءت من أجلها، ولا شك أن مصالح الناس تختلف باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم، وهو ما يعني ضرورة فقه كل ذلك حتى يكون الحكم موافقا للمقصود الشرعي منه، وهو ما يطلق عليه بفقه الواقع، بإشكالياته المعقّدة والمركبة، وظروفه المتغيّرة باستمرار، لأن “الواقع ليس إلا مجموع الوقائع الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، ومن ثم فإن فهم تلك الوقائع واستيعابها، وتبين طبيعتها وخصائصها، حتى يسهل تنزيل الحكم الشرعي عليها، وهذا هو الذي عبر عنه الأصوليون بتحقيق المناط الخاص والعام”[23].

وهو فقه لا يتحقق إلا بـ”النزول إلى الميدان وإبصار الواقع الذي عليه الناس، ومعرفة مشكلاتهم ومعاناتهم واستطاعاتهم وما يعرض لهم، وما هي النصوص التي تتنزل عليهم في واقعهم، في مرحلة معينة، وما يؤجل من التكاليف لتوفير الاستطاعة”[24]، لأنه فقه “مبني على دراسة الواقع المعيش، دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصاءات”[25]، ولأنه يسعى إلى تحصيل “الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يوجهها”[26] في مجالاتها المختلفة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية، والصناعية وغيرها.

على أن هذا النوع من الفقه الواجب اعتباره من المجتهد لا يعني أبدا إخضاع الشريعة للواقع في ظل المتغيرات، لأن الشريعة هي الأصل، وهي الحاكمة، كما لا تعني حاكمية الشريعة الوقوف عند حرفية النص وإغفال روحه ومقصده، وإغفال واقعه الذي يتنزل عليه، ولذلك كان من القواعد الشرعية المقررة والمقطوع بها تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال[27]، على أن “القصد من التغيير هو تغيير التفسير والاجتهاد لهذه النصوص، على ضوء الضرورة أو تغيير العلل التي بنيت عليها، أو انتفاء الشروط اللازمة لتطبيقها”[28].

وهكذا صار فقه الواقع وفقه للتغيرات، ومراعاة لأحوال المكلفين، ضرورة شرعية؛ إذ التابع تابع[29]، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[30]، ويكفي للتدليل على ذلك إنكار النبي ﷺ الشديد على من أقدموا على الفتوى وتقرير الأحكام دون النظر إلى الواقع وأحوال المستفتي، وفقه ظروفه الخاصة، وما يصلح له[31]، واجتهاد سيدنا عمر في عدم إجراء حد السرقة عام المجاعة؛ وهو عمل بالأولى في الاعتبار حين تعارض مقصد حفظ النفس مع مقصد حفظ المال، وليس كما يقال إن سيدنا عمر، رضي الله عنه، حور معنى النص أو عطله أو أوقف تطبيق الشريعة، لأنه “إنما اجتهد في تنزيل الحكم باعتبار الضرورات، ذلك لأن حفظ النفس مقدم على حفظ المال في الشريعة على الجملة، وللضرورة أحكام. على أن حالة الاستثناء لا تؤثر على الحكم الأصلي”[32].

     3- اعتبار الفكر المقاصدي للمآلات:

اعتبار المآلات مستقل نسبيا عن فقه الواقع واعتبار الأحوال، ذلك أن اعتبار المآلات إنما يقوم على توقع مآل راجح انطلاقا من حال معينة بالنظر إلى العلاقات التي تتحصل تلقائيا بين المقدمات ونتائجها بحكم الشرع أو العقل أو العرف، ذلك أن “المسببات هي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب: وهو معنى النظر في المآلات”[33]

وهو من القواعد المهمة المعتبرة، والمقاصد العظيمة في الشريعة، وذلك لأنها تمثل بجلاء روح النصوص، ومقاصد الشريعة، وتهدف إلى تحقيق عملية الاجتهاد الصحيح، وتكفل المصالح الشرعية التي رعاها الشارع من الأحكام، ورفع الحرج عن المكلفين، وقد قرر الشاطبي أن الشريعة الإسلامية مآلية بطبيعتها؛ لأن التكاليف مشروعة لمصالح تجلب في الدنيا والآخرة[34].

وبناء على ذلك؛ فعلى مجتهد التنزيل أن ينظر في فتـاويه إلى مآلات الأفعال التي جعلها محل حكمه وفتواه، فهو قبل أن يصدر حكمه في النازلة ينظر إلى آثـار ذلك الحـكم، فإن كـان محققا للمصلحة أمضاه وأجازه، وإن كان مؤديا إلى المفسدة منعه وأبطله، وقد اعتبر الشاطبي أن من لم يراع ذلك، فهو قاصر عن درجة الاجتهاد[35]. إيمانا منه بدوره في المقاصد الشرعية؛ حتى أنه عـده أصلا معتبرا في الحكم على مشروعية أفعال المكلفين وفي مراعاة مصالحهم. وقال عنه أنه: “مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة”[36].

والفائدة من هذا البسط أن أصل اعتبار المآل يتأسس على ارتباط مشروعية الفعل بما يترتب عليه من المصالح، وارتباط حظره بما يترتب عليه من المفاسد، وبناء عليه إذا توصل المجتهد إلى معرفة المصلحة التي من أجلها شرع الفعل، أو المفسدة التي من أجلها منع، فإنه يحكم بمشروعية هذا الفعل ما دام محققا للمصلحة التي شرع من أجلها، فإذا كان الفعل في بعض الحالات غير محصل لهذه المصلحة، أو كان مع تحصيلها مفوتا لمصلحة أهم، أو مؤديا إلى ضرر أكبر، حكم المجتهد بالمنع منه. وبالمثل يحكم المجتهد بالمنع من الفعل دفعا لمفسدته ما دام المنع منه لا يؤدي إلى حدوث مفسدة تساوي أو تزيد[37].

ولذلك اعتبر الإمام الشاطبي نظر المجتهد في واقع الحال، وإدراك كنه النوازل، والإحاطة بملابساتها وظروفها الواقعية، والتحقق من مناطاتها العامة، غير كاف للتطبيق السليم لأحكام الشريعة. بل لا بد لهذا المجتهد أن يخطو بنظره خطوة أخرى تتوجه إلى اعتبار خصوصيات أشخاص المكلفين، وخصوصيات أفعالهم، وإلى التبصر بمآلات المستفتين الواقعة والمتوقعة، وعلى هذا الأساس اعتبر أن من علامات المجتهد الراسخ “أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات”[38]؛ لأن النظر في الواقع باعتبار المآل من أركان النظر الاجتهادي الأساسية عنده.

 

———————————————————————

[1] – الشاطبي، الموافقات، مج: 1، ج: 1، ص: 87.

[2] – ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 251.

[3] – نفس المصدر، ص: 306-307.

[4] – مقاصد الشريعة ومكارمها، ص: 7.

[5] – وقد صرح بأن تعريفه للمقاصد جاء “بناء على هذه التعريفات والتوضيحات لمقاصد الشريعة لكل من ابن عاشور وعلال الفاسي وبناء على مختلف الاستعمالات والبيانات الواردة عند العلماء الذين تحدثوا عن موضوع المقاصد”. ينظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص: 7.

[6] – الريسوني، الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده، ص: 13.

[7] – المرجع نفسه، ص: 7.

[8] – الخادمي، نور الدين بن مختار، الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، ص52 -53.

[9] – الريسوني، الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده، ص: 34.

[10] – المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

[11] – المرجع نفسه، ص: 35.

[12] – إعلام الموقعين، ج: 3، ص-ص: 14-15.

[13] – ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 411.

[14] – ابن القيم، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم، دار الكتب العلمية، بيروت، ج: 2، ص: 22.

[15] – وقد وجدت هذه العبارة في بحثين على شبكة الانترنيت شبيهين في المضمون والمباحث التي يعالجانها، غير أن كل واحد منهما منسوب لصاحبه، فتعذر علي الإحالة على واحد منهما لعدم التمكن بعد بحث من معرفة الأصل، أو الإشارة إلى الأسبق منهما على الأقل؛ ينظر: حاجة المجتهد إلى الاجتهاد المقاصدي، لماهر حامد محمد الحولي؛ أثر المقاصد في الاجتهاد الشرعي، لعبد الله الزبير عبد الرحمن.

[16] – البرهان في أصول الفقه، ج: 1 ص: 101.

[17] – مجموع الفتاوى، ج: 11، ص: 354.

[18]– الموافقات، مج: 2، ج: 4، ص-ص: 86-87.

[19] – ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 184.

[20] – القرضاوي، يوسف، عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية، ص: 9.

[21] – ينظر: حاجة المجتهد إلى الاجتهاد المقاصدي، لماهر حامد محمد الحولي؛ أثر المقاصد في الاجتهاد الشرعي، لعبد الله الزبير عبد الرحمن. بحثان متشابهان في المضمون على الشبكة (سبق ذكرهما).

[22] – الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده، ص: 93.

[23] – الاجتهاد المقاصدي: حجيته.. ضوابطه.. مجالاته، ج: 2، ص: 68.

[24]– عبيد حسنة، عمر، تقديم: فقه الواقع: أصول وضوابط، لأحمد بوعود. ص: 9 وما بعدها.

[25] – القرضاوي، أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، ص: 30.

[26]– بوعود، أحمد، فقه الواقع؛ أصول وضوابط، ص: 42.

[27] – وقد صاغ الأستاذ علي الندوي القاعدة صياغة أكثر تفصيلا، حيث قال: “لا ينكر تغير الأحكام المبنية على المصلحة والعرف بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف والعوائد”. ينظر: الندوي علي، القواعد الفقهية، ص: 123.

[28] – محمصاني صبحي، فلسفة التشريع في الإسلام، ص: 241.

[29]– ينظر: الزرقا أحمد، شرح القواعد الفقهية، ص:253؛ الندوي علي أحمد، القواعد الفقهية، ص:401؛ شبير محمد عثمان، القواعد الكلية والضوابط الفقهية في الشريعة الإسلامية، ص:300.

[30]– ينظر: الغزالي، المستصفى، ص:57؛ الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، مج:1، ج:1، ص:96؛ الشاطبي، الموافقات، مج:1، ج:1، ص:88.

[31]– فقد تسرع قوم في عهده صلى الله عليه وسلم وأفتوا رجلا به جِراحة أصابته جنابة أن يغتسل، دون رعاية لما به من جراح، فكان ذلك سبباً في موته، فقال عليه الصلاة والسلام: “قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم…”. سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم، حديث رقم: ‏287‏. وفيه تقرير صريح على ضرورة فقه واقع المستفتين وأحوالهم.

[32] -آيت أمجوض، عبد الحليم، فقه التنزيل وقواعده وتطبيقاته، ص: 45.

[33]– الشاطبي، الموافقات، مج: 2، ج: 4، ص: 141.

[34]– المصدر نفسه، مج:2، ج:4، ص:141.

[35] – ينظر: الشاطبي، الموافقات، مج: 2، ج: 4، ص: 140.

[36] – المصدر نفسه، مج:2، ج:4، ص:141.

[37]– حسان حسين حامد، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، ص:194.

[38]  – الشاطبي، الموافقات، مج: 2، ج: 4، ص: 169.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *