ظاهرة “الحرقة” عبر قوارب الموت في المجتمع الجزائري من منظور مقاصدي

ظاهرة “الحرقة” عبر قوارب الموت في المجتمع الجزائري من منظور مقاصدي

 الباحثة: مختارية بوعلي

باحثة في الطور الثالث دكتوراه في تخصص مقاصد الشريعة الإسلامية

جامعة وهران (1) أحمد بن بلّة – الجزائر

  مقدمـــــــــــــــة:       

        تعدّ الهجرة غير الشرعية أو “الحرقة” بالمفهوم الشبابي العامّ ظاهرة تقف وراءها العديد من الأسباب والدّوافع التي جعلتها أكثر تفاقما من ذي قبل, إضافة إلى سيطرت الاتجاه البرغماتي المادي النّفعي الذي أدّى بفئة الشباب إلى البحث عن الطرق والأساليب السهلة والرّبح الوفير والذي لا يوجد إلّا في الدول الأوروبية على حدّ زعمهم, حيث تجدهم يسعون بكلّ الوسائل والطرق غير المشروعة في سبيل تحقيق ذلك ولو كان فيه هلاكهم.

        ومصطلح الحرقة أو الحرّاقة (بتشديد الرّاء ونطق القاف جيما مصرية) مصطلح شاع استعماله في دول المغرب العربي خصوصا, ويعني أولئك الشباب الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط باتجاه دول أوروبا في قوارب الموت مخترقين الأطر القانونية, مجازفين بحرق وثائقهم وهوياتهم بله ماضيهم طمعا في اكتساب هوية جديدة ومستقبل زاهر.

        ويعتبر المرجع الوحيد في ذلك حسب آرائهم حول هذا اللّفظ المتداول هو طارق بن زياد الليثي فاتح الأندلس في عهد الخلافة الأموية, الذي عند تجاوزه للبحر وقيادة جنوده للضفّة الثانية عمد إلى حرق كلّ السفن التي كانوا على متنها, موجّها رسالة بفعله لجيشه كي لا يفكّر بالتراجع عن القتال, وتعبيرا منه عن قراره الحاسم بفتح الأندلس لا غير أو الشهادة دونها, واشتهرت قولته على الألسنة “أيّها النّاس: أين المفرّ, العدوّ أمامكم والبحر وراءكم, فليس لكم النجاة إلاّ بالسيوف”. فكان تيّمن شبابنا بهذه الواقعة, وتمسّكهم بهاته المقولة, فكانت لهم قوّة وعزيمة على (الحرقة) مهما كان الثمن.

       وبعد التحقيق في المرجعية تبيّن أن لا وجود لهذا الأثر في سيرة الفاتح طارق بن زياد, ولو كان لذُكر في أمّهات المصادر المعتمدة في الفتوحات الإسلامية كفتوح مصر والأندلس لابن عبد الحكم, وفتوح البلدان للبلاذري والكامل في التاريخ والعبر وغيرهم.[1] وعلى فرض حدوث الواقعة أصلا, لجاءت فيها تعليقات وانتقادات من علماء وفقهاء ومحلّلين, لكن لا شيء وارد من هذا القبيل.[2]

         وقد ارتفعت وتيرة هذه الظاهرة (الحرقة) في الآونة الأخيرة لتشكّل مأساة حقيقة, جعلت من قوارب الصّيد قوارب موتٍ محقّق, نتيجتها جثث لموتى يلفظها البحر على ضفافه يوميا إضافة لمئات المفقودين في عرضه وآلاف المعتقلين من قِبل السّلطات, فهذه الحصيلة المدمّرة أصابت سهامها صميم الأمّة الجزائرية وصمّام أمانها وهم الشّباب, شباب استُنزفت آماله فآثر المضي نحو مصير مجهول طمعا في حياة أفضل متطلّعا لمستقبل زاهر وباحثا عن الرّفاه في بلد غير بلده.

          ففي السنوات الأخيرة ارتفع المنحنى لتبلغ الجزائر فيه رقما قياسيا وصل حسب إحصائيات رسمية جزائرية سجلّتها وزارة الدفاع إلى أزيد من 13000 حالة هجرة غير شرعية مابين مفقودين وموتى وحالات تمّ إحباطها. ومن خلال هذه الحصيلة العامّة نلحظ عودة الظاهرة بقوة, جالبة معها مآسي للعائلات الجزائرية بقدها لأبنائها وللوطن بأكمله.[3]

         وكثيرا ما تسوقنا المبرّرات التي يتّخذها الشباب ذريعة لإقدامهم على “الحرْقة” إلى صعوبات في فهمها وكيفية التعامل معها، وغالبا ما تفهم تلك التصريحات على أنّها البواعث الحقيقية وراء الظاهرة,     فيكفي أن يبرّر الشاب رغبته في “الحرْقة” بعجزه عن إيجاد عمل مرموق أو لظروف عائلية ومسؤولية صعبة, أو طمعا في بناء مستقبل فارهٍ فلم يعد يجد في بلده مستقبلا ولا أملا, وغيرها من المبرّرات التي يسعون لأن تكون مقنعة للسّامع, لكن عند إنعام النّظر في الخلفيات نجد بواعث أخرى منها المباشرة كالاقتصادية والاجتماعية ومنها الفاعلة وفيها المغذية والمحفّزة عليها.[4]

         ظاهرة الهجرة غير الشرعية (الحرقة) في الميزان الشرعي:

          لن نتناول الحديث في هذه الأسطر حكم الهجرة عموما أو الهجرة من ديار الإسلام إلى بلاد الكفر إذ ليس محلّ حديثنا هذا, وإنّما سنخصّ بالحديث مسألة في غاية الأهمّية والخطورة في نفس الوقت, وهي ظاهرة الهجرة غير الشرعية أو ما يصطلح عليه باسم “الحرقة” بين شباب اليوم خلسة وعبر قوارب الموت, محاولين الإجابة على الأسئلة التالية:

  • ما الحكم الشرعي في الإقبال على هذا النوع من الهجرة؟
  • ما أهمّ المتعلّقات أو الضوابط التي يمكن بناء الحكم عليها عند عرض هذه المسألة على ميزان الشريعة وخاصة ميزان مقاصد الشريعة وكليّاتها؟

        إنّ لظاهرة الهجرة غير الشرعية مفاسد كثيرة سواء على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني للدول المصدّرة والمستقبلة, أو على الفرد المهاجر في حدّ ذاته بطريقة مباشرة, مفاسد تعتريها مصالح لا تكاد تكون معتبرة, وهذا الجانب الأخير (على مستوى الفرد المهاجر) هو ما سنقوم ببيانه في الأسطر الموالية, من خلال نظم جملة من الضوابط الحاكمة على هذه المسألة.

ضوابط حاكمة على مسألة الهجرة غير الشرعية:

أولا: ضابط المقصد أو الغاية من الهجرة غير الشرعية

      لا يخالف عاقل في جواز الهجرة ذات المقاصد الشرعية التي لا تخالف الشرع وأحكامه, كالهجرة طلبا للرزق والسعي في الأرض وللسياحة والتّفكر ولطلب العلم وجلب مصالح الأوطان وخدمتها, وقد عدّ من أعظم البواعث على الهجرة الفرار بالدّين والتّمكين للمسلمين, فكلّ هذا مباح إذا كان مقرونا بضمان السلامة وانتفاء المخاطر, ولو نظرنا إلى مقاصد الهجرة وغاياتها في هذا الزمان لاتّضح لنا اختلال الموازين, إذ أضحت هجرة اليوم غير شرعية خارجة عن القوانين المنظمة للدول وعبر قوارب الموت, تحقيقا لمقصد الخلاص من البطالة وبحثا عن الرّفاه في العيش واكتساب الثروات, مقصد يدفع المهاجر لأجله مبالغا طائلة تصل إلى 200 ألف دينار, إذ لو استثمر فيها وبقي في بلده لكانت كفيلة بفتح مشروع مثمر له ولأمّته.[5]

     فمن المصالح في زعمه البحث عن مناصب عمل تليق به أو بناء مشروع حياتي مستقبلي, إذ صرّح أحدهم قائلا: “أريد الذهاب وأريد الحرقة, فهل تريدونني أن أكون مستغلا مثل الميكانيكي والنّجار والعامل الفلاحي والفلاح؟؟ كيف سأعيش؟؟”, وكأنّ هذه الأعمال والمهن ليس بأعمال, لا نغفل أنّها قد لا تكفل له حتّى القدر الكافي من المعيشة, لكن هل سيجد في نظره مناصب مرموقة بانتظاره في تلك الدول الأجنبية وخصوصا إذا كان من غير حاملي الشهادات؟؟ إذ نجد أنّ للرسوب المدرسي المبكّر دور في الإقبال على هذه الظاهرة, فأفق الشاب المهني والمستقبلي يصبح مسدودا أمامه ممّا يدفعه للبحث عن سبل بديلة, لكنّه لا ضير سيشقى أكثر ممّا كان يشقاه في بلده, وسيعاني أكثر ممّا عاناه فيرضى هناك برعاية المواشي وتنظيف الحمّامات, وسيفترش الكرتون (بقايا علب السّلع) وينام في الطرقات كما صرّح بذلك غير واحد, فلا هو عاش في بلده مكرّما بين أهله, ولا هو قادر على العيش في وسط لا يوفّر له متطلّبات معيشة يحلم بها ولا يقاسمه معاناته وآلامه. فشتّان بين مقاصد هجرتهم ومقاصد هجرة شبابنا.

ثانيا: ضابط الوسيلة المستخدمة في الهجرة غير الشرعية

         إنّ الأصل في ركوب المراكب البحرية هو الجواز إذا كانت السّلامة غالبة فيها، والمقاصد مأذون فيها, ولا شك أنّ أيًا من الشرطين لا يتوفر فيما يسمّى اليوم بالهجرة غير الشرعية, فلا السّلامة غالبة عليها، ولا معتبرة إلاّ في نطاق ضيّق، وبما أنّ هذه الأخيرة لا تتمّ إلّا سرّية وخارج نطاق القانون وانتهازية مفتقدة لأدنى أسباب السّلامة والأمان, فإنّها مظنّة الهلاك لا محالة, إذ لا يجوز ركوب البحر إذا كان مظنّة للخطر والهلاك, ومن ركبه في حال اضطرابه غير متيقّن من سلامته وقدرته على تجاوزه فهو آثم بلا خلاف, ولأهل العلم وقفات طويلة في هذه المسألة عند حديثهم عن السّفر مع تعريض النّفس للتّهلكة, مستدلّين بقوله تعالى “وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمُ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المحْسِنِين”[البقرة195], وبقوله عليه الصلاة والسلام “ومن ركب البحر عند ارتجاجه فمات فقد برئت منه الذّمة”[6] وقد قال الشوكاني: “والحديث يدلّ على عدم جواز ركوب البحر في أوقات اضطرابه”,[7] ونقل عن ابن عبد البرّ “أنّه يحرم ركوبه عند ارتجاجه اتفاقا”[8], وعن شيخ الإسلام ابن تيمية “وركوب البحر للتجارة جائز إذا غلب على الظنّ السلامة, وأمّا بدون ذلك فإن فعل فقد أعان على قتل نفسه…”[9].

        وقد اتفق الفقهاء على إسقاط فريضة الحج عن المسلم إذا كان طريقها الوحيد هو ركوب البحر المضطرب وعدّ ذلك تغريرا بالنّفس والمال[10], وقال الشوكاني في تفسير الآية السابقة “فكلّ ما صدق عليه أنّه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا, ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التّخلص”,[11] فإن كان هذا للفريضة وعند الحرب الواجبة شرعا فكيف بهجرة غير شرعية دون هذا كلّه في الحكم والشرف, وبقوارب شراعية مطاطية بدائية لا تصلح حتّى للملاحة وغير آمنة, بل هي طريق لإيراد الأنفس موارد العطب والهلاك, والعاقل كما قال ابن الجوزي “إذا أراد سلوك طريق يستوي فيه احتمال السلامة والهلاك, وجب عليه الكفّ عن سلوكها”, فكيف إذا غلب الهلاك على احتمال السلامة؟؟

        وحفظ النّفس مقصد وكليّة من كليّات الشريعة الإسلامية وضرورياتها, تمالأت الشرائع والأحكام على حفظها, ولا خلاف في أنّ هذا النوع من المجازفة بها وتعريضها للمهالك بدءا باحتمال الغرق في لجّ البحر ووصولا إلى مفاسد أخرى سنبيّنها فيما بعد, هو محرّم شرعا كون المفاسد متوقّعة أو بالأحرى غلب وقوعها, ومن الموازنة في الشريعة دفع المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

          ثمّ إنّ المقصد من هذه الهجرة هو تحصيل المال وكسبه, لكن لا خلاف في أنّها وعبر قوارب الموت خاصّة تؤدّي بالنّفس إلى الخطر والتّهلكة, فيستلزم هذا منّا الموازنة بين كلية النّفس وكليّة المال وتحصيله, فالنّفس مطلوب حفظها وهي مقدّمة على كليّة المال, فلا ينبغي للإنسان أن يقدم بنفسه على الهلاك من أجل تحصيل المال, كما أنّ المهاجر لو بقي في بلده فلن يموت جوعا وهذا واقع, بخلاف ما لو ألقى بنفسه للهلاك من أجل ألّا يموت جوعا أو بالأحرى من أجل أن يحسّن مستواه المعيشي؛ فهذا عين الخطر والتّهلكة, والتّضحية تكون بالمال من أجل حفظ النّفس وليس العكس, إضافة إلى أنّ الذي هو مُقدم عليه (تحصيل المال) هو في حدّ ذاته مصلحة متوهّمة فقد يوجد وقد لا يوجد, بخلاف إتلاف النّفس فهو مفسدة مُحقّقة ومتوقّعة.

       وكنّا قد أشرنا سابقا[12] إلى أنّه خلال سنتي 2018 و2019م وحسب ما كشفت عنه الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان بتسجيلها إحباط محاولة 4000 حرّاق, إضافة إلى أزيد من 1000 حالة وفاة وفقد, لكن هذه الإحصائيات ورغم ضخامتها إلّا أنّها لا تعكس الرقم الحقيقي لتلك الأعداد الكبيرة التي تقدم على الحرقة.

        هذا عن الإحصائيات, أمّا ما يخصّ المنافذ والمعابر الجزائرية وخطورتها وصعوبة ولوجها, فإنّ المسافة ليست بالقريبة من الدول الأوروبية مقارنة بالمغرب (مضيق جبل طارق), حيث إنّ أقرب منفذ إلى إسبانيا بالنّسبة للجزائر هي مدينة الغزوات البحرية إذ تبعد قرابة 195 كلم, وكذلك منفذ ولاية عنابة الجزائرية يبعد عن جزيرة سردينيا الإيطالية حوالي 245 كلم, وهذا من أكبر الأسباب التي تؤدّي بهلاك قوارب الحرّاقة قبل وصولها للضفاف المقصودة.

         وعن عمليات التّهريب وما يتعلّق بها فإنّها سبل إلى الموت المحقّق أو أقرب إليه من حبل الوريد, فإنّها تتمّ عبر أشخاص أو شبكات ومنظمات جدّ بسيطة وغير منظّمة, إذ لا يتمّ فيها مرافقة الحرّاقة فلا ضمانات حول نجاح العملية؛ كونها تنطلق من مناطق معزولة تنعدم فيها فرق الحراسة البحرية,[13] حيث يُجهّز لكلّ مجموعة حرّاقة متكونة من حوالي 20 إلى 30 شخص قاربا صغيرا, ويُترك به مخزون بسيط مع تقديم بعض النصائح والإرشادات, كلّها قوارب لا تتجاوز مساحتها 5 مترات بمحرّك قوّته من 40 إلى 60 حصان لتجوب أعماق البحر ولججه في مسيرة مجهولة عاقبتها.

         أمّا بخصوص أساليب شبكات التهريب فإنّها خاصة تصل إلى حدّ الإلقاء بالمهاجرين في عمق البحر في حين زاد القارب عن الحمولة أو هُدد بالغرق,[14] دون التلاعب بهم عن طريق استغلالهم وإخضاعهم للظروف القاسية طيلة الرّحلة, بل قد يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى فقدان المهاجرين لأموالهم الهائلة التي دفعوها كأجرة تهريب (قد تصل إلى 200 ألف دينار وأكثر), كون التّعامل مع المهرّبين يتمّ في الخفاء وعن طريق الوسائط.

 ثالثا: ضابط الأثر المترتّب بالاعتبار المآلي الذي تؤول إليه

          ولعلّنا نجسّد هذا الضابط في مجموعة نقاط مختصرة تبيّن المقصود منه:

1/ المتابعة القانونية والقضائية:كون ظاهرة الهجرة غير الشرعية باتت مصنّفة عالميا في المرتبة الثالثة تبعا لخطورتها الإجرامية بعد المتاجرة بالمخدرات والأسلحة, إذ أضحت تديرها تنظيمات وعصابات إجرامية مختصة تعرف بشبكات الهجرة السرية وهذا قد بيّناه سابقا.

 2/ المتابعة والمطاردة: بدءا بفرق خفر السواحل الذين يقومون بحراسة ومراقبة السواحل وإيقاف قوارب الحراقة وإبطال عملياتهم, وكذلك فرق شرطة الحدود الأجنبية التي تقوم بتفتيش السفن والبواخر بالموانئ التي قد تكون محمّلة بالحراقة خفية, ثمّ إنّ المقبوض عليهم يتمّ توجيههم نحو مراكز الحجز والحبس المؤقت في ظروف كارثية, قد تصل حتى للسجن لسنوات وهذا الإجراء فيه ما فيه من الانتهاك والإذلال لو كانوا يدركون.

3/ الإعادة أو الطّرد: والتي تقوم بها شرطة الدول الأجنبية (البلد المستقبل) بعد إلقاء القبض على الحراقة, إمّا حين وصولهم للموانئ أو السواحل أو خلال مدة إقامتهم غير الشرعية في البلد فيتمّ طردهم وإعادتهم لبلدهم الأصلي ليسلّموا إلى شرطة الحدود.

4/ الإذلال والامتهان النفسي: فإنّ الدخول إلى البلاد المهاجر إليها من غير الطرق الرسمية المعتبرة, يجعل المهاجر تحت طائلة التتبع المستمرّ من قبل سلطات تلك البلد، فيكون معرضا للاعتقال والعقاب، فضلا عمّا يضطر إليه كثير من المهاجرين غير الشرعيين للاختفاء والعيش في أماكن غير لائقة للإقامة والسكن بها وافتراش الطرقات والتّسول, ففي هذا كلّه امتهان لنفسه ولكرامته.

5/ أيادي عاملة رخيصة: فالعمل يكون سرّي وبمقابل زهيد جدّا, ووفق شروط قاسية وفي مناصب يتجنّبها عادة الشباب الأوروبي؛ كأعمال النّظافة والتّعدين والبناء وجني العنب وغيرها, وفي ظروف أقسى كالمبيت في العراء بعد أن تمّ منعهم من ولوج الكنائس ودور العبادة, ولا يمكّنهم ذلك حتّى من الاعتراض أو المطالبة بالضمانات الاجتماعية أو التّشكي نظرا لأوضاعهم غير القانونية,[15] وهذا لعلّه يعكس النّزعة الاستعلائية والاستغلالية والانتهازية التي تعامل بها الدول الأوروبية المهاجرين غير الشرعيين خاصة منهم أصحاب الأصول العربية الإسلامية.

 6/ الاستغلال السياسي: فحسب ما أثبتت ذلك عديد الدراسات فإنّ معظم الشباب الحرّاقة يتمّ استغلالهم وضمّهم إلى اللفيف الأجنبي, وهو عبارة عن جيش مجنّد متعدّد الجنسيات وتنعدم فيه شروط الانضمام مع توفّره على حق التنازل عن الجنسيات الأصلية,  وهؤلاء عادة ما يتمّ اصطيادهم وتوظيفهم لأهداف سياسية وأغراض أمنية معادية.[16]

7/ انتهاك كرامة المسلمين الموتى من الحراقة: إذ إنّ الكثير من الحراقة بعد موتهم في سواحل الدول الأجنبية يتمّ حرق جثثهم, كما صرّح بذلك أحد أعضاء جمعية جاريتgarethe) ) الإسبانية بأنّه على ضوء التّدفق الكبير للمهاجرين السرّيين على السواحل الإسبانية, وانتشال العديد من الجثث, فإنّ التشريع الإسباني في مجال الهجرة غير الشرعية يتيح للسلطات المحلية تدابير حرق جثث الحراقة الذين يلقون حتفهم غرقا في مياه البحر.[17]

         وختام ما عرضناه: أنّ الهجرة غير الشّرعية على الوجه الذي يحصل في بلادنا الآن؛ لا يجوز فعله شرعا ولا الإقدام عليه؛ لأنّ هذه الهجرة تتضمّن وتستلزم الكثير من المخالفات والمفاسد، كتعريض النّفس للمخاطر والهلاك من غير مُسَوِّغ شرعي، ومن المقرّر شرعا أنّ حفظ النّفس أحد مقاصد الشّريعة الخمسة التي تقع في مرتبة الضروريات, والإقدام عليها هو من الإلقاء بالنّفس إلى التّهلكة، والله تعالى يقول: “وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنِ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” [النساء 29], إضافة إلى ما في إقدامه على ذلك من إذلال النّفس، وتعريضها للمهانة وإنزال العقوبة، وقد ورد في الحديث: “لا يَنبغِي للمسلمِ أن يُذلّ نفسَه، قالوا: وكيفَ يُذل نفسَه؟ قال: يعرّضُ نفسَه مِن البلاءِ لما لا يُطيقُ”[18].

         فرحلة قوارب الموت المحقّق, كلّها مخاطر وتحفّها المفاسد بدءا من مغادرة منافذ العبور خفية وانتهاء إلى الوصول (هذا إن تمّ)  للضفاف الأخرى المقصودة, فلا حكم الشرع مأخوذ بالاعتبار, ولا رحلة موصلة بأمان, ولا نفس مرعية وضمان, ولا كرامة محفوظة ولا ماء وجه مصان, ولا رزق كريم بالانتظار, ولا مرقد ومأكل وراحة بال…

          ألِأجل هذا الفردوس المفقود كما يقال, وفي سبيل تحصيل أو البحث عن مستقبل متوهّم يغامر ويجازف شباب أمّتي؟؟

          وستكون لنا وقفة ختامية في قابل الأيام بإذن الله مع استشراف بعض الحلول والاستراتيجيات للحدّ من مخاطر هذه الظاهرة والتّقليل من مسبّباتها, فانتظرونا…


[1] – ينظر: مرجعية الحرقة عبر قوارب الموت في المجتمع الجزائري, مختارية بوعلي, https://islamanar.com/%d9%85%d8%b1%d8%ac%d8%b9%d9%8a%d8%a9

[2] – الهجرة غير الشرعية (الحرقة), نبيل زياني, مجلة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية, مجلد 29, سنة 2015م, ص201, إحراق طارق بن زياد للسفن أسطورة لا تاريخ, عبد الحليم عويس, دار الصحوة للنّشر والتوزيع, 1995م.

[3] – ينظر: الحرقة عبر قوارب الموت في المجتمع الجزائري (توصيف الظاهرة), مختارية بوعلي, https://islamanar.com/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%82%d8%a9

[4] – ينظر: ظاهرة الحرقة (البواعث والأسباب), مختارية بوعلي, https://islamanar.com/%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9

[5] – الهجرة غير الشرعية في ظل الشريعة الإسلامية, نظيرة عتيق, أعمال ملتقى الهجرة غير الشرعية, إشكالية جديدة للقانون, 20/04/2009م, أم البواقي, الجزائر, ص295.

[6] – مسند الإمام أحمد, أحمد بن حنبل, مؤسسة الرسالة, ط:1, 2001م, ج34/ ص351.

[7] – نيل الأوطار, محمّد بن علي الشوكاني, دار الحديث, مصر, ط:1, 1993م, ج4/ ص343.

[8] – فتح الباري, ابن حجر العسقلاني, دار المعرفة, بيروت, ج11/ ص77.

[9] – الفتاوى الكبرى, تقي الدين ابن تيمية, دار الكتب العلمية, ط:1, 1987م, ج3/ ص22.

[10] – فتح القدير, كمال الدين ابن الهمام, دار الفكر, ج2/ ص418.

[11] – فتح القدير, محمّد بن علي الشوكاني, دار الكلم الطيب, بيروت, ط:1, ج1, ص222.

[12] – ينظر: الحرقة عبر قوارب الموت في المجتمع الجزائري (توصيف الظاهرة), مختارية بوعلي, https://islamanar.com/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%82%d8%a9

[13] – الهجرة غير الشرعية لدى الشباب الجزائري الأسباب والعوامل, سحنون أم الخير, ص11.

[14] – الهجرة غير الشرعية في الجزائر من خلال الصحافة المكتوبة, رابح طيبي, ص59.

[15] – الجحيم ينتظركم بإيطاليا, نور الدين عابد, (صحيفة الشروق اليومي), يوم 07/ 07/ 2008م, العدد 2346, ص9.

[16] – حرّاقة ينخرطون في اللفيف الأجنبي للقتال في دول أجنبية, نائلة برحال, (صحيفة الشروق اليومي), يوم 02/08/2008م, العدد 2368, ص5. ولتفاصيل أكثر حول استغلال الحرّاقة وانتهاك حقوقهم ينظر:

N Bell: L Europe organise la clandestinité. Le monde Diploatique. Avril 2003.

[17] – جثث الحراقة تحرق في إسبانيا, العربي.ب. صحيفة الشروق, يوم 11/09/2007م, العدد 2095, ص5.

[18] – مسند الإمام أحمد, المصدر السابق, ج38/ ص435.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *