إطار نظري جديد لدراسة مقاصد الشريعة الإسلامية

إطار نظري جديد لدراسة مقاصد الشريعة الإسلامية

د. نَعْمَان جَغيم (كلية الشريعة والقانون، جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، بروناي)

 مدخل

الشريعة الإسلامية هي ما شَرَعَهُ الله عزَّ وجلَّ لعباده على لسان خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. والوعاء الذي جاءت فيه تلك الشريعة هو نصوص القرآن الكريم وسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فإن تلك النصوص هي المصدر الذي تُسْتَخْلَصُ منه مقاصد تلك الشريعة السَّمْحَاء. وقد جاءت نصوص الشريعة الإسلامية بِقَصْد: (1) إخبار الإنسان بحقائق الكون المشتملة على مرحلتي الحياة الدنيا والحياة الآخرة (المعتقدات الصحيحة)، (2) وتذكيره برسالته في هذه الحياة؛ وهي تحقيق العبودية لله تعالى، (3) وإرشاده إلى السلوكيات والتصرُّفات التي تُمَكِّنُه من تحقيق تلك الرسالة، وضابط تلك التصرُّفات هو ما يُصْطَلَحُ عليه بالأحكام الشرعية. (4) ولَمَّا كان القيام بتلك الرسالة مُهِمَّة شاقَّة دونها صَوارِفُ وعَقَبَات كثيرة، فقد امتلأت نصوص تلك الشريعة السمحاء بالتذكير والوعظ والإرشاد الذي يرفع من هِمَّةِ الإنسان في الالتزام بتلك الأحكام الشرعية. والشارع الحكيم لم يَضَع الأحكام الشرعية اعتباطا، بل وضعها لمقاصد تُسْهِمُ في تحقيق الصلاح في الحياة الفردية والاجتماعية، ولذلك كان التعرُّفُ على تلك المقاصد مُعِينًا للإنسان على الالتزام بالأحكام الشرعية على الطريقة المطلوبة. والأحكام الشرعية منها ما جاء مفصَّلاً، ومنها ما جاء مُجْمَلاً يحتاج إلى تفصيلٍ وتنزيلٍ على ما يَجِدُّ للإنسان في حياته من وقائع وتصرُّفات، لذلك كان من اللازم التعرُّف على مقاصد الشارع الحكيم في منهجه في التشريع، حتى تكون تلك المقاصد هاديًا للمجتهد في استنباط أحكام الوقائع والتصرُّفات المستجدَّة.

بناء على ما سبق، يكون تحديد مقاصد الشريعة الإسلامية عَبْرَ دوائر مُتعدِّدَة لكنها متكاملة، تتلخص في ثلاثة دوائر، هي: مقاصد الخطاب الشرعي، ومقاصد الأحكام الشرعية، ومقاصد الشارع في منهج تشريع الأحكام الشرعية. ويبان المراد بكل واحد منها في الآتي:

1- مقاصد الخطاب الشرعي: هي المعاني المقصودة من الخطاب الشرعي الذي يُنْشِئُ حُكما من الأحكام الشرعية، أو يؤسِّسُ لمبدأ من المبادئ، أو يُخبر عن حقيقة من الحقائق. ومن أبرز العناصر المتعلقة بمقاصد الخطاب الشرعي معرفة المعيار الضابط لأحكام التصرفات التي يقوم بها الإنسان.

2- مقاصد الأحكام الشرعية: هي الحِكَمُ والمصالح التي شُرعت الأحكام الشرعية لتحقيقها.

3- مقاصد الشارع في منهج التشريع: هي الأمور التي راعاها الشارع في منهج تشريع الأحكام، وأبرزها: مراعاة الفطرة، والتيسير والسماحة، وعموم الشريعة، والموازنة بين المصالح والمفاسد، ومراعاة مآلات الأفعال والأحكام.

هذه الأنواع الثلاثة من المقاصد متمايزة في أصلها، لكنها متكاملة، وكل نوع منها له فوائده، كما أن لكل نوع منها طُرُقُه الخاصة في الكشف عنه.

مثلا، في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183). المقصد من هذا الخطاب الشرعي هو إيجاب الصوم على من توفّرت فيه شروطه، أما المقصد من هذا الحُكم الشرعي فهو تحقيق التقوى. في قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185). المقصد من الخطاب هو إيجاب الصوم على المكلَّف المستطيع، وجواز الإفطار للمريض والمسافر مع القضاء. والمقصد من الصيام -كما نصت عليه الآية السابقة- تحقيق التقوى. والمقصد من الترخيص في الفطر للمريض والمسافر التيسير عليهما ورفع الحرج عنهما، وهو مقصد متعلق بمنهج التشريع.

وفي قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (*) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 178-179) نجد أن من مقاصد هذا الخطاب الشرعي: مشروعية القصاص في القتل، واستحقاقُه على الجاني إلا في حال العفو، ومشروعية العفو عن الجاني. وفي الآيات بيان للمقصد من مشروعية العفو عن الجاني وهو التخفيف عليه والرحمة به، وهو متعلق بمقاصد الشارع في منهج التشريع. وفيها بيانٌ للمقصد من حُكم القصاص وهو حفظ النفوس.

تأصيل الإطار النظري الجديد

هذا الإطار النظري الذي يُقَدِّمُه الباحث لدراسة مقاصد الشريعة أصيلٌ، ومُسْتَمَدٌّ من العمل التأسيسي الذي وَضَعَهُ الشاطبي، وهو إعادةُ صياغةٍ لذلك العمل وتطويرٌ له.

 أولا: معالم النظرية المقاصدية عند الشاطبي

يُعَدُّ الإمام الشاطبي واضع النظرية المقاصدية بأُسُسِها وتفاصيلها، وقد قَصَد إلى جعلها جزءا لا يتجزأ من النظرية الأصولية العامة. يدلُّ على ذلك أنه جعل النظرية المقاصدية جزءا من كتاب الموافقات الذي هو كتاب أصولي. وهذا الوضع له دلالته الواضحة على أن استخدام القواعد المقاصدية ينبغي أن يكون ممزوجا بالقواعد الأصولية وفي إطارها.

بنى الشاطبي النظرية المقاصدية على محورين أساسين: أحدهما: قصد الشارع، والثاني: قصد المكلَّف. ثم بنى محور مقاصد الشارع على أربعة أعمدة:

أولها: “قصد الشارع في وضع الشريعة”: مُجْمَلُ ما جاء فيه بيانٌ لكون الشارع إنما وضع الشريعة لتحقيق مصالح الخلق بمراتبها الثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات؛ والحديث عن العلاقة بين المصالح والمفاسد، ومراتب كل منهما. الملاحظ أن الغالبية العظمى من المسائل الواردة في هذا المحور تتعلق بمقاصد الأحكام الشرعية.

الثاني: “قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام”: مُجْمَلُ ما جاء فيه البحثُ في بعض طرق وضوابط فهم النصوص القرآنية. الملاحظ أن مسائل هذا المحور تدور حول مقاصد الخطاب الشرعي وكيفية التعرف عليها.

الثالث: “قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها”: مُجْمَلُ ما جاء فيه الحديثُ عن خصائص التكاليف الشرعية وعلاقتها بالمكلَّف، من حيث القدرة على الالتزام، ومن حيث المشقة الناتجة عن التكليف. من الواضح أن مسائل هذا المحور كلها تتعلق بمقاصد الشارع في منهج التشريع.

الرابع: “قصد الشارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة”: مُجْمَلُ ما جاء فيه الحديث عن: (1) العلاقة بين قصد الشارع من شرع الأحكام وقصد المكلَّف عند تطبيق تلك الأحكام والالتزام بها، حيث ينبغي على المكلَّف -حتى يصح التزامه- أن يكون قصدُه تبعا لقصد الشارع لا مناقضا له. (2) علاقة الأحكام الشرعية بحظ المكلَّف وأثر ذلك في صحة الالتزام، وطريقة تنفيذه. (3) عموم الشريعة لجميع المكلفين ولجميع أفعالهم وجوانب حياتهم ومرجعيتها في كل ما يعنّ لهم. الملاحظ أن مسائل هذا المحور موزعة بين مقاصد الشارع في منهج التشريع، ومقاصد الأحكام الشرعية، ومقاصد الخطاب الشرعي.

يتضح من هذا أن مقاصد الشريعة -عند الشاطبي- لا تنحصر في مقاصد الأحكام الشرعية، بل تشمل أيضا مقاصد الخطاب الشرعي، ومقاصد الشارع في منهج التشريع. نعم، لم يذكر الشاطبي هذا الاصطلاح، ولم يقسِّمها هذا التقسيم، ولكن النظر المتفحص يظهر أنه قد ذكر الأنواع الثلاثة بشكل بشكل متداخل، والتطوير المنهجي للنظرية المقاصدية يقتضي هذا التفريع والتقسيم، حتى تتضح معالم تلك النظرية أكثر، وتزداد آفاق البحث فيها اتساعا.

ثانيا: معالم النظرية المقاصدية بعد الشاطبي

1- مقاصد الشريعة الإسلامية عند محمد الطاهر ابن عاشور

على عكس الشاطبي الذي سعى إلى تأسيس نظرية متكاملة لمقاصد الشريعة الإسلامية، فإنه يظهر من كلام محمد الطاهر ابن عاشور في مقدمة كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية) أنه لم يكن يقصد إلى استقصاء الكلام في معالم النظرية المقاصدية، حيث يقول: “هذا كتاب قصدت منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها، والاحتجاج لإثباتها”.[1] وعلى الرغم من أنه قد دعا إلى فصل مقاصد الشريعة عن أصول الفقه، وتأسيس علم خاص بها يشتمل على لُبَابِ علم أصول الفقه مع أشرف معادن مدارك الفقه والنظر،[2] إلا أنه لم يعمل على استقصاء البحث في أركان وتفاصيل ذلك العلم، بل اكتفى بوضع مباحث محدودة في جوانب مُعَيَّنَة من النظرية المقاصدية، هي الأوصاف العامة للشريعة الإسلامية ومقاصد المعاملات المالية والآداب العامة، وترك للآخرين العمل على إكمال بناء النظرية المقاصدية!

قسّم ابن عاشور مباحث المقاصد إلى قسمين:

القسم الأول: مقاصد التشريع العامة:[3] جمع فيه بين الأوصاف العامة للشريعة، والمقاصد العامة للأحكام الشرعية. فذكر من الأوصاف العامة للشريعة ما يأتي: (1) كون الشريعة مبنيَّة على السماحة، (2) اتّصاف الشريعة بالعموم من حيث الأشخاص والأزمان والأماكن، (3) أن الشريعة الإسلامية لم تشتمل على ما فيه نكاية بأتباعها، فهي قاصدةٌ طريقَ التيسير والرفق، (4) أن الشريعة ليست قاصدة إلى تغيير جميع عوائد البشر، بل سارت على تغيير ما كان منها فاسدا، وتقرير ما كان منها من باب المعروف، (5) ابتناء الأحكام الشرعية على المعاني والأوصاف لا على الأشكال والأسماء، وقبول ما تبيَّن منها ابتناؤه على معنى معقول القياس عليه، (6) إبطال الشريعة للتحيّل على أحكامها، وسدها ذرائع الفساد، لأن في كليهما إبطالٌ لمقاصد الشارع من شرع الأحكام، (7) أن الشارع قصد إلى تجنُّب التفريع في أحكام المعاملات في وقت التشريع تحقيقا للمرونة في هذا المجال، وتجنُّبا لما قد ينتج عن التفصيل من حرج على الأجيال التي تأتي في المستقبل.

أما المقصد العام من الأحكام الشرعية –عنده- فهو: القصد إلى حفظ نظام الأمة الإسلامية وتحقيق الصلاح في جميع مجالات الحياة الإنسانية، واستدامة ذلك الصلاح. ويكون ذلك بتحقيق صلاح الإنسان القائم على ذلك النظام.

وقد ذكر عنصرا يجمع بين كونه وصفا عاما من أوصاف الشريعة، وكونه مقصدا عاما من مقاصد أحكامها، وهو مراعاة الفطرة: فهو وصف من الأوصاف العامة للشريعة من جهة كون الشريعة مبنيَّة على الفطرة؛ بمعنى موافقة جميع أحكامها لما تقتضيه فطرة الإنسان السليمة. وهو مقصد من مقاصد الأحكام من جهة كون تلك الأحكام قاصدة إلى حفظ الفطرة وصيانتها من كل خرق أو اختلال.[4]

القسم الثاني: مقاصد التشريع الخاصة بأنواع المعاملات بين الناس: تحدَّث فيه عن مقاصد أحكام العائلة، ومقاصد التصرفات المالية، ومقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على الأبدان، ومقاصد أحكام التبرعات، ومقاصد أحكام القضاء والشهادة، والمقصد من العقوبات.[5]

إن المقارنة بين الشاطبي وابن عاشور في مضمون المقاصد تُظهر أن الشاطبي قد أخذ مصطلح “الشريعة” بمعناه العام الشامل لأحكام العبادات والمعاملات والعادات. أما ابن عاشور فإنه يستخدم مصطلح “الشريعة” بمعنى خاص هو الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات والآداب الاجتماعية، وهي الأحكام والتشريعات المتعلقة بمصالح الحياة الدنيا. أما ما يتعلق بمصالح الحياة الآخرة، ومنها العبادات والأخلاق الفردية، فإنه لا يدرجها ضمن مجال بحثه في مقاصد الشريعة. وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه، حيث يقول: “وإني قصدت في هذا الكتاب خصوص البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب التي أرى أنها الجديرة بأن تُخَصّ باسم الشريعة … كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تُسمَّى بالديانة، ولها أسرار أخرى تتعلق بسياسة النفس، وإصلاح الفرد الذي يلتئم منه المجتمع؛ لذلك فقد اصطلحنا على تسميتها بنظام المجتمع الإسلامي، وقد خصصتها بتأليف سميته أصول نظام المجتمع في الإسلام.”[6]

بناء على هذا الاختلاف في الاصطلاح، حصر ابن عاشور حديثه في مقاصد الشريعة في جانب المعاملات والعادات وما ينتج عنها من مصالح في الدنيا، ولا يتحدث عن البُعْد التّعبُّدي في تلك المعاملات والعادات. أما الشاطبي فجاء حديثه في المقاصد شاملا لجميع مناحي الشريعة بمعناها الواسع، ولا يخلو حديثه عن المعاملات والعادات من إبراز الجانب التّعبُّدي فيها، كما يربط مصالح الدنيا ومفاسدها بما تؤول إليه من مصالح ومفاسد في الدار الآخرة. كما أنه لم يقتصر على مقاصد الأحكام الشرعية، بل تحدث أيضا عن مقاصد الخطاب الشرعي، ومقاصد الشارع في منهج التشريع.

2- مقاصد الشريعة عند علال الفاسي

حصر الشيخ علال الفاسي مقاصد الشريعة في المقصد العام منها والمقاصد الجزئية للأحكام، حيث يقول: “المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حُكْم من أحكامها.”[7] وقد انتقد الذين تعاقبوا على الكتابة في مقاصد الشريعة بأنهم لم يتجاوزوا الحد الذي وقف عنده الشاطبي في كتاب الموافقات، بل إنهم لم يبلغوا ما إليه قَصَد! كما اعتبر محاولات تعليل جميع تفاصيل الأحكام الشرعية الجزئية أخذا للمقاصد بمعناها الحرفي وانحرافا بها عن الإطار الذي وضعها فيه الشاطبي.[8]

الناظر في ما قدمه الشيخ علال الفاسي يجد أنه قد قدَّم إضافات وإسهامات كثيرة، لكنها تتركز في فلسفة التشريع الإسلامي، وتنحصر في جزء من أجزاء النظرية المقاصدية التي أسَّس لها الشاطبي.

 3- مقاصد الشريعة عند الكتاب المعاصرين

لقد شاع التضييق في مفهوم المقاصد عند غالب الكتَّاب المعاصرين، حيث إن الناظر في كتاباتهم حول المقاصد يلاحظ إطلاقهم هذا المصطلح على المقصد العام للأحكام الشرعية، والكليات/ الضروريات الخمسة (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال)، والمصالح بمراتبها الثلاث (الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات)، والحِكَم والمصالح التي يُراد تحقيقها من الأحكام الشرعية،[9] مع بعض التقسيمات الشكلية للمقاصد. ويجعلون المدخلَ والإطار الفلسفي لذلك كلِّه مسألتي تعليل الأحكام الشرعية والمصلحة. والواقع أنه على الرغم من وجود علاقة بين مسألة تعليل الأحكام الشرعية واستنباط الأحكام للحوادث والتصرفات المستجدة ومعرفة مقاصد الأحكام الشرعية، إلا أن هذه المسألة ليست قضية محورية في النظرية المقاصدية، ولا ترقى إلى أن تكون الإطار الفلسفي الكلي لها، ولذلك نجد الشاطبي أشار إليها في مقدمة كتاب المقاصد، ثم تجاوزها إلى البحث في تفاصيل النظرية. كما أن الحديث الطويل عن المصلحة هو مجرد تحصيل حاصل؛ فليس السعي إلى تحصيل المصلحة مما تختص به الشريعة الإسلامية، بل الشرائع كلها -سماوية كانت أم وضعية- تسعى إلى تحقيق ما تعتقده مصلحة، وكل صاحب عقلٍ سليم -سواء كان كافرا أم مسلما- يسعى إلى تحقيق ما يعتقده مصلحة، ولكن مربط الفرس هو تمييز المصلحة الحقيقية من المصلحة الموهومة، والمصلحة المشروعة من المصلحة غير المشروعة، والموازنة بين المصالح لتقديم أفضلها، والموازنة بين المصالح والمفاسد لتحصيل الأحسن ودفع الأسوأ. هذا هو الذي تضطرب فيه العقول، وتَزِلُّ فيه الأقدام، ويحتاج إلى تحرير وتمحيص: كيف نُمَيِّزُ المصلحة الحقيقية من المصلحة الموهومة، وكيف نوازن بين المصالح والمفاسد بما يحقق الصلاح للإنسان في دينه ودنياه؟

لا يخفى على المتأمِّل أن ما يتحدث عنه الكتاب المعاصرون هو جزء من أجزاء النظرية المقاصدية التي وضعها الشاطبي. وأن هذا التضييق والاختزال للنظرية المقاصدية قد أدى إلى ضبابية في معالم تلك النظرية، وأوصلَ البحثَ فيها إلى مضيقٍ جعلها تدور في حلقة مفرغة بتكرار الكلام حول المصلحة وأهمية المقاصد ومحوريته! وهل نكتفي بالضروريات/ الكليات الخمسة أم نزيد عليها؟ وإذا قلنا بالزيادة عليها، ماذا نزيد؟

إن أفضل ما هو موجود في الدراسات المقاصدية المعاصرة تلك الدراسات التطبيقية التي تسعى إلى إبراز مقاصد الشريعة في موضوعات ومجالات معينة. أما الدراسات المتعلقة بالربط بين مقاصد الشريعة والعلوم الاجتماعية والإنسانية فإنها تأتي -عادة- ضعيفة بسبب عدم وضوح مفهوم المقاصد لدى أصحابها. ومن أضعف الدراسات المقاصدية المعاصرة تلك الرسائل الجامعية التي تسعى لدراسة مقاصد الشريعة عند بعض علماء الأصول والفقه، حيث لا تكاد تجد في مضمونها جديدا مفيدا. والسبب الأساس في ذلك هو قصور مفهوم المقاصد عند أصحاب تلك الدراسات، وتركيزه حول تعليل الأحكام الشرعية، والمصلحة، والضروريات/ الكليات الخمسة، وبعض المصطلحات المستخدمة في البحث المقاصدي، وبعض التقسيمات الشكلية. وبناء على ذلك الفهم الضيِّق، تجد الكلام في تلك الرسائل الجامعية يتكرَّر حول تعريف المقاصد وتقسيماتها الشكلية، ووجود مصطلحات: المقاصد، الضروريات، الحاجيات، التحسينيات في ذلك الكتاب، وموقف ذلك الأصولي من تعليل الأحكام الشرعية، وموقفه من المصلحة المرسلة والاستحسان والقياس وسدِّ الذرائع، وما ذكره عن الكليات الخمسة.

مبررات الإطار الجديد

إن هذا الإطار النظري الجديد ضروري من الناحية المنهجية لتجنب الخلط والالتباس الذي يقع في كثير من الكتابات المعاصرة حول مقاصد الشريعة. وتظهر الحاجة إليه في جوانب، منها:

أولا: حسن فهم مشروع الشاطبي في مقاصد الشريعة، حيث إن الشاطبي ضمّن كتابه في مقاصد الشريعة هذه الأنواع الثلاثة، وإن لم ينصّ على التمييز بينها ولم يفصل بينها، ولكن النظر الفاحص لمضمون الكتاب يجدها كذلك.

ثانيا: تجنُّب الخلط الواقع في كتابات المعاصرين حول طرق معرفة مقاصد الشريعة، خاصة عندما يتبنون المسالك التي ذكرها الشاطبي، فيقعون في اضطراب عند محاولة تطويعها للكشف عن مقاصد الأحكام الشرعية، في حين أن الشاطبي قصد بأغلبها معرفة مقاصد الخطاب الشرعي وليس الأحكام الشرعية.

ثالثا: أنه يرسم صورة واضحة لموضوع مقاصد الشريعة، ويمكِّنُنا من الحديث عن التعليل بمقاصد الشريعة بصورة دقيقة تفصل بين التعليل بمقاصد الأحكام الشرعية وبين التعليل بمقاصد الشارع المتعلقة بمنهج التشريع.

رابعا: إخراج البحث في مقاصد الشريعة من المضيق الذي وضعها فيه الكتاب المعاصرون إلى أُفُقٍ رَحْبٍ يُثْمِرُ تحريرَ الكلام في عشرات المسائل الفقهية والفكرية الواردة في القرآن الكريم وفق منهج متكامل يجمع بين القواعد الأصولية والقواعد المقاصدية. وقد ذكرت معالم ذلك المنهج ونماذج له في الفصل المتعلق بمقاصد الخطاب الشرعي من كتابي: المحرر في مقاصد الشريعة الإسلامية. كما يفتح أفقا واسعا للبحث في مقاصد الشارع في منهج التشريع وتطبيقاتها في الاجتهاد.

خامسا: تجنُّب المصطلحات والمفاهيم الهلامية التي قد تؤدي إلى التشويش الفكري والاضطراب المنهجي. وأخصُّ بالذكر هنا مصطلحي: الاجتهاد المقاصدي، والتفسير المقاصدي.

من الواضح أن هذه المصطلحات والمفاهيم الهلامية إنما هي نتاج المفهوم المبتور لمقاصد الشريعة عند الكتاب المعاصرين، والعودة بمقاصد الشريعة إلى مفهومها الشامل -كما أسَّس له الشاطبي- الذي يشمل مقاصد الخطاب الشرعي ومقاصد الأحكام الشرعية ومقاصد الشارع في منهج التشريع يُلغي الدواعي إلى الحديث عن هذه المصطلحات والمفاهيم الهلامية.

أما بالنسبة للاجتهاد، فالواقع أنه إما أن يكون اجتهادا مستوفيا لشروطه، وإما أن يكون اجتهادا غير مستوف لشروطه. الاجتهاد المستوفي لشروطه هو الذي يُحْسِنُ صاحبُهُ اختيار النصوص أو القواعد العامة التي يحكم بها على الحادثة محلّ الاجتهاد، ويُحسن فهم مقاصد الشارع من تلك النصوص والقواعد، ويُحسن الترجيح بين القواعد التي تتجاذب الواقعة، والترجيح بين ما قد يكتنف الحادثة من مصالح ومفاسد إذا كانت محلاًّ لذلك. أما الاجتهاد القاصر فهو الذي يُركِّزُ على بعض عناصر الفهم السليم مع إهمال العناصر الأخرى: مثل التركيز على الوضع اللغوي للألفاظ فقط، أو التركيز على ما يظنه الشخص مصلحة مقصودة من النص، أو غير ذلك من العناصر الجزئية! ولا خلاف عند المتقدمين والمتأخرين من العلماء أن الاجتهاد الذي يغفل عن مقاصد الشرع -بمعناها الشامل وليس بالمعنى الـمُخْتَزَل- هو اجتهاد غير مستوف لشروطه، ولذلك فهو اجتهاد لا يُعتدُّ به. وكما أنه لا داعي لتسمية الاجتهاد القاصر “اجتهادا غير مقاصدي”، بل يكفي ما يطلق عليه من كونه اجتهادا فاسدا أو قاصرا أو غير صحيح، فإن لا داعي لتسمية الاجتهاد الذي يراعي مقاصد الشريعة “اجتهادا مقاصديا”، بل يكفي تسميته “اجتهادا”؛ لأن ذاك هو المراد بالاجتهاد أصلا، وإضافة وصف “المقاصدي” من باب تحصيل الحاصل، وقد يصير مدخلا للمزايدة بشعار المقاصد.

وأما التفسير فهو في أصله بيانٌ لمقاصد النصوص القرآنية. ولست أدري كيف يكون منه ما هو مقاصدي، ومنه ما هو غير مقاصدي مع أنه في أصله وجوهره بيان لمقاصد القرآن؟ وهل يمكن أن يكون بيانُ المقصد غير مَقْصديّ؟! نعم، قد تختلف التفاسير في الجانب الذي يُرَكِّزُ عليه المفَسِّر: فيكون تركيز بعضهم على الجانب البياني، وبعضهم على الجانب الفقهي، وبعضهم على الجانب الإشاري، وبعضهم على الجانب الموضوعي، ولكن ذلك التركيز قائم على ثقافة المفسِّر وتخصُّصِه، واعتقاده أن ذلك الجانب هو الوسيلة الأفضل لبيان مقاصد القرآن الكريم؛ فكلُّ مُفسِّر يسعى إلى بيان مقاصد القرآن الكريم، ولكن الطريق إلى ذلك قد تختلف من مُفسِّر إلى آخر. كما أن المفسرين يختلفون في قدراتهم على فهم مقاصد النصوص القرآنية، وفي عُمْق الفهم وسِعَتِه، ولكن يبقى التفسير كله محاولة لبيان مقاصد النصوص القرآنية (مقاصد الخطاب الشرعي، مقاصد الأحكام الشرعية، مقاصد الشارع في منهج التشريع).

الناظر في الكتابات المتعلقة بما يُسَمَّى “التفسير المقاصدي” يجد أنها لا تكاد تخرج عن تحصيل الحاصل! وسأتناول هنا أنموذجا واحدا، هو بحث بعنوان: التفسير المقاصدي: تأصيل وتطبيق.[10]

بداية ينبغي التنبيه على أن الباحث قد سار على المفهوم الضيِّق لمقاصد الشريعة -كما هو شائع عند الكتاب المعاصرين- حيث عرفها بأنها: “غاياتها التي شرعها الله عزَّ وجلَّ من أجلها، لتحقق مصالح العباد، ودفع المضار والمفاسد عنهم.”[11] فالمقاصد الشرعية عنده تتمحور حول قضية مراعاة المصالح، ويأتي على رأسها حفظ الضروريات الخمس.[12]

يعترف الباحث في بداية حديثه عن مفهوم التفسير المقاصدي بأن الذين كتبوا في هذا الموضوع لم يأتوا بشيء متميِّز، حيث عرفوه بتعريفات تكاد تكون مرادفة لمعنى التفسير.[13] وقد حاول هو أن يأتي بتعريف يُمَيِّزُ التفسير المقاصدي عن التفسير، فاقترح تعريفه بأنه: “التفسير الذي يعتني بمقاصد الشريعة وكلياتها في القرآن الكريم، ويراعي علل الأحكام الشرعية المتعلقة بها مع سائر العلوم والأدوات الضرورية للتفسير.”[14] وقد بَنَى الكاتب تصوُّرَه للتفسير المقاصدي على أساس دعوى التفريق بين “القَصْد” وبين “المقصد”، حيث يُستمعل “القَصْد” للمعنى المراد من نصوص القرآن الكريم، ويُستمعل “المقصد” للحِكَم والمصالح المقصودة من الأحكام الشرعية، ويجعل “القَصْد” خارجا عن مقاصد الشريعة،[15] بحث يكون “القَصْد القرآني” -الذي يعني المراد من النصوص القرآنية- وسيلة لفهم المقصد الشرعي وليس مرادفا له.[16] وقد بَيَّنْتُ في كتابي: المحرر في مقاصد الشريعة الإسلامية عدم صِحَّة التفريق بين القصد والمقصد لغة واستعمالا.

بعد كلام طويل عن مظاهر عناية القرآن الكريم بمقاصد الشريعة،[17] وجهود المفسرين -بداية من عصر الصحابة رضي الله عنهم- في العناية بمقاصد الشريعة في تفسيرهم،[18] خلص الباحث إلى أن المفسرين -سواء منهم القدامى أم المعاصرين- قد شاركوا في التفسير المقاصدي واعتنوا به.[19] وكانت النتيجة الأولى التي توصل إليها في نهاية بحثه أن “التفسير المقاصدي وإن كان حديث النشأة اصطلاحا، إلا أنه أصيل لدى العلماء من جهة مراعاته وتطبيقه.”[20] وإذا كانت التفاسير القديمة والمعاصرة قد اعتنت بالمقاصد، وهي بذلك تفاسير مقاصدية، فهل يزيد الكلام عن “التفسير المقاصدي” على أن يكون مجرَّد تحصيل حاصل؟  وما الداعي إلى هذا الاصطلاح أو إلى إنشاء علم جديد بمسمى “التفسير المقاصدي”؟

هذه الملامح العامة للإطار النظري الجديد لدراسة مقاصد الشريعة، وتفاصيله وتطبيقاته في كتاب: المحرر في مقاصد الشريعة الإسلامية، كما أنه توجد موضوعات ذات صلة به في كتاب: تجديد المنهج في دراسة أصول الفقه،[21] وكتاب: المحرر في النسخ في القرآن.[22]


  • [1] محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (ماليزيا: دار الفجر، عمان: دار النفائس، ط1، 1420هـ/ 1999م)، ص117.
  • [2] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص122.
  • [3]  ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص189-302
  • [4]  ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص189-195.
  • [5] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص317-384.
  • [6] ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص124.
  • [7] علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993م) ص7.
  • [8] علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص5.
  • [9] انظر مثلا: يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية (الرياض: الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ط2، 1415هـ/ 1994م). عز الدين بن زغيبة، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية (القاهرة: مطابع دار الصفوة للطباعة والنشر، ط1، 1417هـ/ 1996م). محمد سعد اليوبي، مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية (الرياض: دار الهجرة للنشر والتوزيع، ط1، 1418ه/ 1998م). عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 2006).
  • [10] الزهراني، مشرف بن أحمد جمعان، التفسير المقاصدي: تأصيل وتطبيق، مجلة الدراسات الإسلامية، المجلد 28، عدد1، 1437هـ/ 2016م.
  • [11] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص62.
  • [12] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص70-
  • [13] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص58.
  • [14] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص67.
  • [15] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص64.
  • [16] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص66.
  • [17] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص67-69.
  • [18] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص70-81.
  • [19] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص81.
  • [20] الزهراني، التفسير المقاصدي، ص93.
  • [21] نعمان جغيم، تجديد المنهج في دراسة أصول الفقه، عمان: دار النفائس، 1441هـ/ 2020م.
  • [22] نعمان جغيم، المحرر في النسخ في علوم القرآن، عمان: دار النفائس، 1441هـ/ 2020م.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *