سلسلة تحرير المباحث الأصولية (1): علم أصول الفقه: مفهومه ونشأته ومناهجه وأهم مؤلفاته

سلسلة تحرير المباحث الأصولية (1): علم أصول الفقه: مفهومه ونشأته ومناهجه وأهم مؤلفاته

سلسلة تحرير المباحث الأصولية (1): علم أصول الفقه: مفهومه ونشأته ومناهجه وأهم مؤلفاته

د. نَعْمان جَغيم

المفهوم اللغوي لأصول الفقه

مصطلح “أصول الفقه” مُركَّب من كلمتين: الأصل، والفقه. الأصل في اللغة هو: ما يُبْنَى عليه غيرُهُ ويَتَفَرَّعُ عليه، والفقه في اللغة هو: المعرفةُ بقصد المتكلِّم. وبهذا يكون المراد بأصول الفقه -في اللغة- ما يتفرَّعُ عليه الفقه.[1]

 المفهوم الاصطلاحي لأصول الفقه

مصطلح “أصول الفقه” يُستخدَم بمعنيين: أحدهما: الأصول التي يقوم عليها الفقه، والثاني: العلم الذي يدرس الأصول التي يقوم عليها الفقه وما يتعلق بذلك من مسائل. والأصل في المعنى الثاني أن يُقال عنه: “علم أصول الفقه”، ولكن كثيرا ما يُعبَّر عن “علم أصول الفقه” بعبارة “أصول الفقه” من باب الاختصار. ومن أجل الدقة والوضوح في التعريف، ينبغي التفريق بين “أصول الفقه” وبين “علم أصول الفقه”.

قبل تعريف “أصول الفقه” و”علم أصول الفقه”، نُبَيِّنُ مفهوم الأصل ومفهوم الفقه في الاصطلاح.

الأصل في الاصطلاح يُطْلَق على معنيين رأيسين: أحدهما: الدليل، كقولنا: أصلُ هذه المسألة الكتاب أو السنَّة، أي دليلها، والثاني: القاعدة الثابتة، كقولنا الأصل في الأشياء الإباحة، أو الأصل في الكلام الحقيقة.

الفقه في الاصطلاح يُنْظَرُ إليه من جهتين: إحداهما: عَمَلُ المجتهد في استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، ومن هذا الباب يمكن تعريفه بما عرَّفَهُ به البيضاوي: “العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتَسَبُ من أدلتها التفصيلية”.[2]

الجهة الثانية: النظر إليه بوصفه مجموعة الأحكام العملية المأخوذة من أدلتها التفصيلية، سواءً منها ما كان مُصَرَّحًا به في نصوص القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة، وهو من باب المعلوم من الدين بالضرورة، أم ما كان مُسْتَنْبَطًا من طرف المجتهدين. وهو الذي نقول عنه: فلانٌ تعلَّمَ الفقه، أي تعلم مجموعة الأحكام الشرعية العملية. وهذا الذي عرَّفَهُ أبو الحسين البصري بأنه: “جُملةٌ من العلوم بأحكامٍ شرعية.”[3]

 تعريف “أصول الفقه”

يوجد توجُّهان بين الأصوليين في تعريف “أصول الفقه”:

التوجُّه الأول: يرى أصحابه أن أصول الفقه هي أدلة الأحكام الشرعية، ومنهم الجويني، حيث جعل أصول الفقه هي أدلته السمعية (نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع)، وأدلته العقلية.[4] والشيرازي الذي يقول: “وأما أصول الفقه فهي الأدلة التي يَبْني عليها الفقيهُ الأحكامَ.”[5] والغزالي الذي يقول: “أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة، لا من حيث التفصيل.”[6] وابن الحاجب الذي يقول: “الأصول: الأدلة الكلية.”[7]

التوجُّه الثاني: يجعل أصول الفقه هي الأدلة الشرعية مع القواعد التي يُتَوَصَّلُ بها إلى استنباط الأحكام. هذا ما فعله الباقلاني، حيث نصَّ في شرحه لتعريف أصول الفقه على أنه يشمل الأدلة الشرعية التي يُتَوَصَّلُ بالنَّظَرِ فيها إلى العلم بأحكام أفعال المكلَّفين، كما يشمل العلوم التي بحصولها يمكن النظر في تلك الأدلة على مراتبها؛ وذلك لأنهما متكاملان، فلا يمكن التوصُّل بكمال العقل والعلم بالتوحيد والنبوَّة وما يتَّصِلُ بذلك إلى معرفة أحكام أفعال المكلَّفين دون وجود الخطاب الشرعي المتمثِّل في القرآن الكريم والسنَّة، كما أنه لا يمكننا معرفة أحكام أفعال المكلَّفين بمجرد وجود الخطاب الشرعي دون وجود آلة فهمه والاستنباط منه.[8]

تعريف “علم أصول الفقه”

عرف أبو الحسين البصري “علم أصول الفقه” بأنه: “النَّظرُ في طُرُق الفقه على طريق الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وما يتبع كيفية الاستدلال بها.”[9] وقريب منه تعريف البيضاوي: “معرفةُ دلائل الفقه إجمالا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.”[10] أما الغزالي فعرفه بأنه: “العلمُ بطُرُق ثبوت أدلة الأحكام ]القرآن والسنة والإجماع[، وشروط صحتها، ووجوه دلالتها على الأحكام.”[11]

يتبيَّن مما سبق أن “علم أصول الفقه” هو العلم الذي يبحث في أدلة الفقه ومصادره (وهي القرآن الكريم والسنة النبوية)، والمناهج والقواعد التي يستعملها المجتهد في تفسير نصوص تلك المصادر واستنباط الأحكام منها. وجوهر علم أصول الفقه هو العلم بكيفية دلالة نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية على الأحكام، وكيفية استنباط الأحكام الشرعية منها، وهو ما عبَّر عنه الغزالي بقوله: “ووجوه دلالتها على الأحكام”، وعبَّر عنه البيضاوي بقوله: “وكيفية الاستفادة منها”، أما العناصر الأخرى مثل: العلم بطرق ثبوت أدلة الأحكام، والعلم بشروط صحتها، والعلم بحال المجتهد (أي شروط المجتهد)، والكلام عن أحكام الفتوى والتقليد، ومباحث الأهلية، فهي عناصر مُكمِّلة أصبحت جزءا من علم أصول الفقه، وإن لم تكن في الأصل من جوهره. والملاحظ على الغزالي أنه لم يدرج في التعريف جانب المجتهد على الرغم من أنه جعل في كتابه قسما خاصا بالاجتهاد وشروط المجتهد، أما البيضاوي فقد أدخل مباحث الاجتهاد ضمن التعريف، ليكون التعريف شاملا لأهم مباحث علم أصول الفقه كما استقر عليه هذا العلم عند المتأخرين.

 فائدة علم أصول الفقه

لدراسة علم أصول الفقه فوائد عديدة: فالمتعلِّم يستفيد منها إدراك مناهج العلماء في الاجتهاد وأسباب الاختلاف بينهم. والمتمرِّس في هذا العلم يستعين به على اكتساب ملكة الاجتهاد بمعرفة مناهج الاجتهاد، وكيفية تركيب الأدلة واستعمالها بطريقة منهجية مُثْمِرة. والنقاش الثريّ حول المسائل المنهجية والأصولية والفقهية الذي تَعُجُّ به كتب الأصول يساعد في تكوين عقلية منهجية تُحْسِن سَبْرَ وجوه الاستدلال وتمييز القوي من الضعيف فيها.

مبادئ أصول الفقه

وُجِدت المبادئ الأساسية لعلم أصول الفقه مع وجود النصوص الشرعية ووجود الحاجة إلى تطبيقها على وقائع الحياة؛ ذلك أن ما يحتاج إليه الشخص لاستنباط الأحكام هو وجود المصدر الذي تُستنبَط منه تلك الأحكام (وهي نصوص القرآن والسنة)، ووجود أدوات الاستنباط؛ وهي في مجملها: العلم بلغة تلك النصوص (اللغة العربية)، والفقه في مبادئ الشريعة ومقاصدها ومنهجها في التشريع، ويقوم ذلك الفقه أساسا على المنطق الفقهي المبني على ممارسة التفقه في نصوص الشريعة، والمنطق العقلي الذي وهبه الله تعالى للإنسان. وقد توفّرت هذه المتطلبات لفقهاء الصحابة دون حاجة إلى تدوينها، كما توفّرت للتابعين الذين تفقّهوا على أيديهم وورثوا العلم عنهم.

لقد كان الخلاف في زمن الصحابة محدودا بسبب تقارب مشاربهم الفقهية، وإمكانية التشاور بينهم قبل إصدار الفتاوى في القضايا الكبرى، ومن ثَمّ لم يكونوا يشعرون بأية خطورة لذلك الخلاف، ولم يتنادوا إلى تدوين أصول استنباط الأحكام وتوحيدها، على عكس ما شعروا به من خطورة الخلاف في القراءات، وهو الأمر الذي دفع بهم إلى جمع القرآن القرآن الكريم وتوحيد مصاحفه.[12] وقد شهدت مبادئ علم الأصول تطورا في عصر التابعين، وتمثّل ذلك التطور أساسا في كيفية التعامل مع اجتهادات الصحابة واختلافاتهم؛ ذلك أنهم وجدوا أمامهم ثروة فقهية ورثوها عن الصحابة رضي الله عنهم، فاحتاجوا إلى تحديد موقفهم من تلك الأقوال الاجتهادية، سواء في حال اتفاق الصحابة على رأي واحد، وهو ما اصطُلِح عليه بالإجماع، أو في حال اختلافهم. وبذلك انضاف إلى مبادئ أصول الفقه الإجماع، وقول الصحابي.[13]

أما الحاجة إلى تدوين مبادئ أصول الفقه فقد نشأت مع ظهور عوامل متعددة، أهمها: اتساع دائرة الاختلاف بسبب تعدّد مشارب الفقهاء واختلاف بيئاتهم، واتساع دائرة المسائل الجديدة، واضطراب أصول الاستنباط وضعف اللسان العربي عند البعض،[14] وتوسُّع الثروة الحديثية بسبب التقدم في مرحلة الجمع والتدوين؛ حيث أدى ذلك التوسع في الثروة الحديثية إلى زيادة التعارض بين الأحاديث بعضها مع بعض أو مع عمومات القرآن الكريم، وظهرت الحاجة الماسة إلى وضع منهج للتعامل مع تلك الثروة بما يحلّ تلك الإشكالات.

وقد انضاف إلى هذه العوامل فيما بعد عوامل مذهبية دفعت أتباع المذاهب الفقهية إلى الخوض في هذا العلم من أجل استخراج الأصول التي اعتمدها أئمة مذاهبهم في الاستنباط، والاحتجاج لها والسعي إلى نُصْرتها. وقد كان لهذا العامل أثر كبير في انتشار التأليف في علم أصول الفقه وتطوره، ويظهر ذلك بجلاء في المناقشات والردود التي كانت بين فقهاء الاتجاهات الفقهية المختلفة.[15]

 التأليف في علم أصول الفقه

أول كتاب وُضع في علم أصول الفقه هو كتاب الرسالة للإمام الشافعي. والناظر في كتاب الرسالة للإمام الشافعي يجد أنه اقتصر على الموضوعات الأساسية ذات الصلة المباشرة باستنباط الأحكام، والموضوعات التي كانت مثار خلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث. ومعلوم أن الخلاف بين المدرستين كان أساسا حول التوسّع في استخدام الرأي -وأساسه القياس- في استنباط الأحكام، وحول علاقة سُنَّة الأحاد بالقرآن الكريم، والعمل ببعض أنواع خبر الواحد؛ ولذلك نجد أن كتاب الرسالة كان استجابة لمتطلبات تلك المرحلة. يتبيَّن ذلك من استعراض المحاور الأساسية للكتاب؛ حيث افتتح الإمام الشافعي رسالته بمقدمة تُعدّ تأسيسا لمصدرية القرآن والسنة في التشريع الإسلامي والحياة الإسلامية عموما. أما صلب الكتاب فقد بُني على كيفية وقوع البيان في الشرع، تحدث فيه عن أسلوب القرآن الكريم في تشريع الأحكام وبيانها، وعن علاقة السنة بالقرآن الكريم وكيفية بيانها للأحكام سواء منها الأحكام الواردة في القرآن الكريم أم الأحكام التي استقلَّت بتشريعها. كما تحدّث عن السبيل الذي يسلكه المجتهد في بيان الأحكام الشرعية واستنباطها. وتكلم عن الإجماع، وعن الاجتهاد الذي كان يمثله القياس بمعناه الواسع، وعن الاستحسان، وعن باب الاختلاف متى يكون محمودا ومتى يكون مذموما؟ وعن حجية أقوال الصحابة.[16]

لقد كان للمستجدات في مجال الحياة الفقهية أثرٌ مستمر في علم أصول الفقه والدفع به في طريق التطور؛ سواء من حيث إدخال موضوعات جديدة فيه، أو من حيث تطوير مضمون موضوعاته التي ظهرت منذ البداية في كتاب الرسالة للشافعي، أو من حيث الطريقة التي تمت صياغته بها.

فمن حيث المضمون، نجد التأليف الأصولي -فيما بعد الشافعي- تطوّر حسب المستجدات الفكرية، حيث كان علماء كل عصر يتصدون لمعالجة القضايا التي كانت مثار نقاش وخلاف بينهم. ففي مباحث السنّة نجد النقاش حول حجية خبر الواحد أدى إلى ظهور مبحث واسع عن حجية خبر الواحد ولزوم العمل به؛ ومع انتشار رواية الحديث وتدوينه وظهور عامل الوضع في الأخبار احتاج العلماء إلى وضع قواعد لتمحيص الحديث الصحيح والمعمول به من غيرهما، ومع أن هذا العلم قد اضطلع به المحدثون أصالة، إلا أن الأصوليين وجدوا أنفسهم في حاجة إلى الخوض فيه أيضا. كما أن ما ظهر من تعارض في السنة بعضها مع بعض، أو تعارضها مع بعض عمومات القرآن وظواهره احتاج إلى وضع ضوابط للجمع والترجيح بين تلك المتعارضات.

منه جهة أخرى، نجد أنه مع بُعْدِ العهد عن زمن الصحابة وتوسع الخلاف، ظهر الاختلاف حول بعض مسائل الإجماع، مثل إمكانية انعقاده بعد عصر الصحابة، وشروط العمل به، والإجماع السكوتي، وهي أمور أدت إلى تطور مباحث الإجماع وتوسّعها.

كما أن التوسّع في استخدام القياس أدى إلى ظهور الخلاف حول بعض صوره واستخداماته، ويظهر ذلك جليا في مباحث ما يَثْبُتُ بالقياس، وما لا يدخله القياس، وشروط العلة ونواقضها. هذا فضلا عن ظهور الاتجاه الظاهري الرافض لاستخدام القياس، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور مبحث طويل حول إثبات حجية القياس والتعبّد به.[17]

أما من حيث منهج البحث والتأليف، فإنه يظهر من النظر في مؤلفات الأصوليين في القرنين الثاني والثالث أن هدفهم الأساس من تقعيد وتدوين قواعد هذا العلم هو ضبط الاجتهاد الفقهي، وبيان طرق الاستنباط، وتحديد الآليات التي يمكن أن يستخدمها المجتهد في اجتهاده، ولم يكن هدفهم وضع نظرية عامة للفقه الإسلامي؛ ولذلك لم يهتموا بتحديد حدود هذا العلم ولا برسم مصطلحاته. ولكن مع تطور العلوم واتساعها ودخول المتكلمين المتمرسين على البحث الفلسفي ميدان الأصول، شهد البحث في هذا العلم دفعة قوية بإدخاله مرحلة التنظير؛ فعملوا على صياغة مباحثه في شكل نظرية متكاملة، والخروج به إلى مرحلة التجريد التنظيري بعيدا عن التأثّر بالفروع الفقهية الموروثة عن المذاهب. وقد تمت هذه النقلة النوعية والتطور الكبير من خلال إسهامات القاضي الباقلاني الأشعري (ت403هـ) التي تمثلت أساسا في كتابه التقريب والإرشاد، والقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت415هـ) في كتابه العمد.[18]

تبرز الملامح التنظيرية للمتكلمين في الاهتمام بتعريف هذا العلم، وتحديد حدوده ومصطلحاته، وتوسيع ميدانه، وبذلك لم يعد هذا العلم قاصرا على طرق الاستنباط ومسالك الاجتهاد، بل دخل ضمن موضوعاته البحث في المجتهد الذي يتولى عملية الاجتهاد، والبحث في المكلَّف الذي تطبّق عليه الأحكام، وفلسفة التكليف التي نشأت بسببها مباحث متعلقة بالحاكم، والتحسين والتقبيح العقليين، وخصائص التكليف. وفي موضوع السنة دخلت مباحث نظرية اصطُلِح عليها بمباحث الأخبار، حيث جرى بحث أقسام الخبر من حيث الصدق والكذب، ومن حيث إفادة القطع والظن. وأصبح موضوع القياس ميدانا واسعا للجدل والمناظرة، فتوسعت مباحثه توسُّعا كبيرا.

 مناهج تقرير المسائل الأصولية

تنوعت مناهج الأصوليين في تقرير المسائل الأصولية والتنظير لها، ويمكن إجمالها في توجهين أساسين:

أحدهما: تقرير المسائل الأصولية بناء على استمدادها إما من اللغة العربية أو من النصوص الشرعية واجتهادات الصحابة، أو من مبادئ العقل، أو من مسائل علم الكلام عند الذين مزجوا علم الكلام بعلم أصول الفقه. ويمثل هذا المنهج غالب علماء الكلام الذين كتبوا في علم أصول الفقه، مثل الباقلاني والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري والجويني والغزالي والرازي والآمدي، ومن سار على منهجهم. كما يمكن أن نُدْرج ضمن هذا المنهج كتاب الرسالة للإمام الشافعي؛ فهو وإن كان تنظيره للمسائل الأصولية يُمثِّل مذهبه الفقهي، إلا أنه لم يستنبط تلك المسائل من الفروع الفقهية لعالم من العلماء، بل كان يقررها بناء على فهمه وقناعاته فيما ورثه من علم السابقين والمعاصرين له. مع الإشارة إلى أن كتابه (الرسالة) يختلف عن كتابات علماء الكلام في خلوه من المسائل الكلامية.

الثاني: استخلاص المسائل الأصولية من الفروع الفقهية المروية عن أئمة المذهب، ثم السعي إلى تأصيلها والاستدلال عليها. ويقف على رأس هذا المنهج علماء المذهب الحنفي الذين لم يترك لهم إمامُ مذهبهم أصولا مدوَّنة، وقد اقتضى الجدل الفقهي مع المذاهب الأخرى -من جهة- والحاجة إلى بيان معالم منهج الاجتهاد الذي يضمن للمذهب الاستمرار -من جهة أخرى- أن يُقَرِّر علماء المذهب أصولَ مذهبهم وينظِّروا لها ويدافعوا عنها. ويمكن أن يُدرج ضمن هذا المنهج مؤلفات بعض علماء المذاهب الأخرى الذين سعوا في مؤلفاتهم إلى إبراز أصول المذهب والدفاع عنها، وإن كان ذلك بدرجة أقل مما كان عليه الأمر عند علماء المذهب الحنفي.

 مناهج التأليف في أصول الفقه

منهج التأليف في أصول الفقه هو الطريقة التي اعتمدها المؤلف في عرض مسائل أصول الفقه، وليس في استمدادها والتنظير لها. وهذه المناهج تتنوع حتى داخل المدرسة الواحدة، أعني مدرسة الحنفية أو مدرسة الجمهور. ويمكن إجمال هذه المناهج في ثلاثة:

أولا: منهج المتكلمين: يقوم هذا المنهج على تقعيد القواعد، والاستدلال عليها بالدليل الشرعي والعقلي، مع تجريد ذلك -غالبا- عن الفروع الفقهية. كما أنه منهج يقوم على المزج بين مسائل علم الكلام ومسائل الأصول، حيث يعتقد أصحابه أن علم الكلام ينبغي أن يكون هو الأساس الذي يقوم عليه علم الأصول، ويسعى كل مؤلف إلى إبراز مذهبه الكلامي ومحاولة ربط المسائل الأصولية به.

أبرز من ألَّف على هذا المنهج من متكلمي المعتزلة: القاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري. ومن أبرز متكلمي الأشاعرة الذين ألفوا على هذه الطريقة: الباقلاني، والجويني، والغزالي، والرازي، والآمدي، ومن تبع طريقتهم من أصوليي المالكية والشافعية والحنابلة الذين قامت مؤلفاتهم على تلخيص وشرح أمهات كتب المتكلمين. أما مُتكلِّمو الماتريدية -وهم أتباع المذهب الحنفي- فأبرز من ألف على هذه الطريقة: أبو منصور الماتريدي (ت333هـ) في كتابيه: مآخذ الشرائع، والجدل، وعلاء الدين السمرقندي (ت539هـ) في كتابه: ميزان الأصول في نتائج العقول،[19] والأسمندي (ت552هـ) في كتابه: بذل النظر في الأصول،[20] واللامشي (توفي في منتصف القرن السادس الهجري) في كتابه المعروف بـ: كتاب في أصول الفقه.[21]

ثانيا: منهج الفقهاء: يقف على رأس أصحاب هذا المنهج فقهاء الحنفية الذين قام منهجهم في تقرير المسائل الالاللأن أصولية على استخلاصها من الفروع الفقهية المروية عن أئمة المذهب؛ لأن أئمة المذهب لم يُدوِّنوا شيئا من أصولهم، فلم يكن من سبيل أمام أتباع المذهب سوى استنباط تلك الأصول من فروعهم الفقهية، ثم السعي إلى تأصيل ما استنبطوه. ولما كانت تلك المسائل مُسْتَمَدَّة في أصلها من الفروع الفقهية، فإنه من الطبيعي أن يكثر ذكر الفروع الفقهية أثناء عرضها والاحتجاج لها، سواء على سبيل التمثيل أم على سبيل الاحتجاج.

ويأتي في المرتبة الثانية جَمْعٌ من علماء الحنابلة -مثل أبي يعلى الفراء في كتابه العدة في أصول الفقه وابن عقيل في كتابه الواضح في أصول الفقه، والمالكية -مثل الباجي في كتابه إحكام الفصول في أحكام الأصول، والشافعية -مثل أبي المظفر السمعاني في كتابه قواطع الأدلة والشيرازي في كتابه شرح اللمع؛ هؤلاء وإن لم يجردوا مؤلفاتهم لأصول المذهب، بل جروا في غالب المسائل على طريقة تُشْبِهُ طريقة المتكلمين في تجريد المسائل الأصولية والاستدلال لها نقلا وعقلا، مع التخفُّف قدر الإمكان من المسائل الكلامية، إلا أنهم يكثرون من الإشارة إلى بيان أصول مذاهبهم الفقهية.

ثالثا: منهج ربط الأصول بالمقاصد الشرعية: وهو المنهج الذي أسس له الشاطبي في كتاب الموافقات، حيث ربط مسائل الأصول بالمقاصد الشرعية العامة والخاصة، كما ربطها بالجانب الخلقي والتعبدي. مع ملاحظة أنه سار على منهج تقرير المسائل الأصولية دون إغراق في الفروع الفقهية.

أهم المؤلفات الأصولية

فيما يأتي نستعرض أهم المؤلفات الأصولية بعد كتاب الرسالة للشافعي، وسوف اقتصر على الكتب التي كانت تأليفا مستقلا في علم أصول الفقه، وكانت شاملة لأهم موضوعاته ولقيت رواجا معتبرا. وسأُعْرِض عن ذكر شروح كتاب الرسالة،[22] والمؤلفات الجزئية التي كانت في القرنين الثالث والرابع، حيث كانت مقصورة على مناقشة بعض الموضوعات الأصولية.

 أهم المؤلفات في أصول الحنفية

1- الفصول في الأصول للجصاص (أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، ت370هـ): يعود الفضل إلى أبي بكر الجصاص في نقل أصول الحنفية من الإطار الجزئي إلى منظومة متكاملة علما ومنهجا وتبويبا، حيث يُعَدُّ كتابُه أول عمل علمي متكامل في مجاله عند الحنفية.[23] وهو أفضل كتب الحنفية وأكثرها تمثيلا لأصول المذهب.

قسم الجصاص كتابه على النحو الآتي: بدأ بأبواب العام وما يتعلق به من الظاهر والنص والمجمل، وما يلحق العام من تخصيص، ثم بعد ذلك تحدث عن أبواب البيان، ثم أبواب الأمر، ثم النهي، ثم أبواب النسخ، ثم أبواب الأخبار ومنها الموقف من خبر الآحاد، ثم أبواب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أبواب الإجماع، ثم أبواب القياس والعلة والاستحسان، وختمه بمباحث الاجتهاد والتقليد.

لم يبتعد الجصاص كثيرا في طريقة ترتيب كتابه عن ترتيب الشافعي لرسالته، إلا أن مواضيعه كانت أكثر اتساعا بحكم التطور الذي شهدته العلوم عموما ومنها علم أصول الفقه، كما أنه كان أكثر عناية بضبط المصطلحات والتعريفات وهو الأمر الذي اقتضاه عصره ولم يكن معهودا في زمن الشافعي.

2- تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع (تقويم الأدلة) للدبوسي (أبو زيد عبيد الله بن عمر الدبوسي، ت430هـ): نهج الدبوسي منهجا خاصا في تبويب هذا الكتاب، حيث رتبه على تقسيم الأدلة إلى شرعية وعقلية، وتقسيم الأدلة الشرعية من حيث قوة دلالتها إلى ثلاثة أقسام: أدلة تُوجِبُ العلم (كتاب الله تعالى، وخبر الرسول المسموع منه، والمروي عنه بالتواتر، والإجماع)، وأدلة تُوجِبُ العمل دون العلم (الآية المؤوَّلة، والعام الذي ثبت خصوصه، وخبر الواحد أو خبر الصحابي، والقياس)، وأدلة مُضِلَّة أو موهومة (التقليد، والإلهام، واستصحاب الحال، والطرد).

3- كنـز الوصول إلى معرفة الأصول للبزدوي (علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي، ت482هـ): كتاب مختصر، جرى صاحبه في تبويبه على طريقة تختلف عن سابقيه، حيث رتَّب كتابه على حسب الأدلة الشرعية، فبدأه بالدليل الأول، وهو القرآن الكريم، وقد أدخل فيه كل المباحث التي يُحتاج إليها في فهم نصوصه، من مباحث الأمر والنهي، وأسباب الشرائع، وطرق دلالة الألفاظ ومراتب تلك الدلالة. ثم الدليل الثاني: السنّة النبوية: وقد ضمّنه الحديث عن أقسام السنة، والتعارض وكيفية دفعه، والبيان وأقسامه، وباب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الأحكام الأربعة: المباح، والمستحب، والواجب، والفرض، وتقسيم السنَّة في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم: تكلم فيه عن الوحي، والإلهام، واجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وشرع من قبلنا، وحجية قول الصحابي. ثم الدليل الثالث: الإجماع. ثم الدليل الرابع: القياس. ويلاحظ أنه أدرج مباحث الاجتهاد والترجيح في ثنايا الحديث عن العلل وطرق إبطالها، وجعل آخر مبحثين في كتابه هما: باب بيان العقل (مسألة التحسين والتقبيح العقليين)، وباب الأهلية وأقسامها وعوارضها.

4- أصول السرخسي للإمام السرخسي (أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، ت490هـ): ألفه صاحبه بعد تأليف كتاب “المبسوط” في الفقه ليكون بيانا للأصول التي اعتمدها في شروحه على كتب أئمة المذهب، وسماه تمهيد الفصول في الأصول، حيث يقول: “فذلك الذي دعاني إلى إملاء شرح في الكتب التي صنفها محمد بن الحسن رحمه الله، بآكد إشارة وأسهل عبارة. ولما انتهى المقصود من ذلك رأيت من الصواب أن أبيِّن للمقتبسين أصول ما بنيت عليها شرح الكتب، ليكون الوقوف على الأصول معينا لهم على فهم ما هو الحقيقة في الفروع، ومرشدا لهم إلى ما وقع الإخلال به في بيان الفروع.”[24] ولذلك جاء الكتاب مليئا بالأمثلة والتطبيقات الفقهية. وقد قسمه إلى الأبواب الآتية: باب الأمر. باب النهي. باب أسماء صيغة الخطاب في تناول المسميات وأحكامها: تناول فيه العام والخاص والمشترك والمؤول. باب أسماء صيغة الخطاب في استعمال الفقهاء وأحكامها: تناول فيه الظاهر والنص والمفسَّر والمحكَم والخفي والمشكل والمجمَل والمتشابه والحقيقة والمجاز والصريح والكناية. باب في بيان معاني الحروف المستعملة في الفقه. باب بيان الأحكام الثابتة بظاهر النص دون القياس والرأي: وهي عبارة النص وإشارته ودلالته ومقتضاه. باب بيان الحجة الشرعية وأحكامها: تحدث فيه عن الكتاب والسنة والإجماع. باب الكلام في قبول أخبار الآحاد والعمل بها. باب البيان. باب النسخ. باب الكلام في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وأدرج فيه الحديث عن شرع من قبلنا وقول الصحابي. باب القياس. باب الترجيح. باب وجوه الاعتراض على العلل الطردية التي يجوز الاحتجاج بها. باب أقسام الأحكام وأسبابها وعللها وشروطها وعلاماتها. باب أهلية الآدمي لوجوب الحقوق له وعليه وفي الأمانة التي حملها الإنسان.

5- ميزان الأصول في نتائج العقول لعلاء الدين السمرقندي (539هـ): هو أهم كتاب -وصلنا- في أصول الحنفية ألَّفه صاحبه على طريقة المتكلمين. افتتحه بمقدمة عن مفهوم العلم، ثم عقد بابا للحكم الشرعي، ثم عقد بابا لبيان ما تعرف به الأحكام الشرعية: تحدث فيه عن القرآن الكريم وكيفية تعلق الأحكام به (مباحث الألفاظ والدلالات)؛ السنة النبوية؛ الأمر والنهي؛ العام والخاص؛ المطلق والمقيد؛ الحقيقة والمجاز؛ شرع من قبلنا؛ الإجماع؛ القياس وما يلحق به؛ استصحاب الحال؛ التقليد؛ الإلهام؛ التعارض؛ النسخ؛ الترجيح؛ أهلية الأحكام؛ أسباب المشروعات؛ توابع القياس وهي: الاجتهاد وقوادح القياس.

أهم المؤلفات على طريقة الجمهور

1- التقريب والإرشاد للباقلاني الأشعري (أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، ت403هـ): ألَّف الباقلاني كتابا موسَّعا بعنوان: كتاب الأصول الكبير (التقريب والإرشاد الكبير)، وكتابا متوسِّطا بعنوان: كتاب الأصول الأوسط (التقريب والإرشاد الأوسط)، وكتابا صغيرا بعنوان: كتاب الأصول الصغير (التقريب والإرشاد الصغير).[25] هذا الأخير هو الموجود، وقد حققه الدكتور عبد الحميد أبو زنيد، وطبعته مؤسسة الرسالة في ثلاثة مجلدات. كما أن مضمونه موجود في كتاب “التلخيص” للجويني الذي هو تلخيص لكتاب التقريب والإرشاد للباقلاني.

حصر الباقلاني أصول الفقه في ثمانية أصول، هي: الخطاب الوارد في الكتاب والسنة؛ الكلام في حكم أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ القول في الأخبار وطرقها وأقسامها؛ الكلام في شروط قبول أخبار الآحاد في الأحكام؛ الإجماع؛ القياس؛ صفة المفتي والمستفتي والقول في التقليد؛ الحظر والإباحة.

صدَّر الباقلاني كتابه بالحديث عن مجموعة من المفاهيم ذات الصلة بأصول الفقه: الفقه، أصول الفقه، العلم، العقل، الحد، الدليل، النظر، الفعل، التكليف، الحسن والقبح، أقسام الحكم الشرعي، المفيد من الخطاب، الحقيقة والمجاز، حروف المعاني. ثم بعد ذلك فصَّل الكلام في الأوامر وفي النهي وأحكامه، ثم تحدث عن أحكام العموم والخصوص، ثم تكلم عن المطلَق والمقيَّد، ثم تكلم عن دليل الخطاب والمفهوم، وختم كتابه بمباحث البيان.

2- العُمَد (ويذكر في بعض المصادر بعنوان: العُهَد) للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت415هـ): هذا الكتاب مفقود، وقد ذكر تلميذُهُ أبو الحسين البصري أنه قد شرحه في كتاب، ولكن ذلك الشرح لم يصل إلينا هو أيضا. ويمكن تتبُّع الآراء الأصولية للقاضي عبد الجبار في كتابه “المغني في أصول التوحيد”، وهو مطبوع، وكتاب “المعتمد” لأبي الحسين البصري.

3- المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي (أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، ت436هـ): سعى فيه المؤلف إلى الحدِّ من غزو علم الكلام لأصول الفقه، حيث قال في مقدمته: “ثم الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب في أصول الفقه، بعد شرحي كتاب العُهَد (العُمَد) … أني سلكت في الشرح مسلك الكتاب في ترتيب أبوابه… وشرح أبوابٍ لا تليق بأصول الفقه من دقيق الكلام… فأحببت أن أؤلف كتابا مرتَّبَةٌ أبوابُه غير مكررة، وأعدل فيه عن ذكر ما لا يليق بأصول الفقه من دقيق الكلام؛ إذ كان ذلك من علم آخر لا يجوز خلطه بهذا العلم، وإن تعلق به من وجه بعيد”.[26]

بنى أبو الحسين البصري مُخَطَّط كتابه وفق ترتيب منطقي حدده مسبقا بشكل يجعل مباحث أصول الفقه مرتبة في شكل نظرية متكاملة. يقوم ذلك المخطط على أساس أن الهدف من أصول الفقه استثمارُ الأحكام من النصوص الشرعية، والنصوص الشرعية نوعٌ من الكلام، ومن ثم فلابد من البدء بالحديث عن الكلام وتقسيمه إلى حقيقة ومجاز، ثم الحديث عن حروف المعاني للحاجة إليها في فهم الخطاب، ثم بعد ذلك الحديث عن الخطاب الشرعي. وبعد الفراغ من الحديث عن الخطاب انتقل إلى الحديث عن حكم أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنها المصدر الثاني للأحكام بعد الخطاب. ثم جاء الحديث عن النسخ، وقد وضع مباحثه في هذا الموضع لأن النسخ يدخل الخطاب والأفعال. ثم بعد ذلك جاء دور الحديث عن الإجماع، وقد علل تأخير الإجماع إلى ما بعد النسخ بكونه لا يدخله النسخ. وبعد الإجماع تحدث عن الأخبار، ثم بعد ذلك جاء الحديث عن القياس، وعلل تأخير القياس إلى ما بعد الإجماع بكون العمل بالقياس إنما ثبت بطريق الإجماع. ثم بعد القياس جاءت مباحث الحظر والإباحة، وأخيرا الكلام في المفتي والمستفتي، ومعها مسائل التخطئة والتصويب عند المجتهدين.

4- العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الفراء (أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي، ت458هـ): تميز المؤلف عن سابقيه ومعاصريه بأنه افتتح كتابه بباب خصَّصَهُ لتعريف الاصطلاحات المستعملة في مختلف أبواب علم أصول الفقه، وأتبعه بباب عن حروف المعاني، ثم بعد ذلك الحديث عن أبواب أصول الفقه، حيث بدأ بباب الأوامر، ثم باب النهي، ثم باب العموم وضمنه مسائل المحكم والمتشابه، ثم باب النسخ، ثم باب الأخبار، ثم باب الإجماع، ثم باب التقليد، ثم باب القياس، وختم الكتاب بباب الاجتهاد.

5- إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي المالكي (أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، ت474هـ): ذكر في سبب تأليفه أنه كان استجابة لطلب وضع كتاب متوسط الحجم في بيان أصول المذهب المالكي بمدارسه المختلفة، وما يراه الباجي راجحا من بينها. افتتح الباجي كتابه بمقدمتين: الأولى في الحدود التي يحتاج إليها الأصولي المجتهد في الأصول، والثانية عن حروف المعاني. أما صلب الكتاب فقد بدأه بأدلة الشرع، وقسمها إلى ثلاثة أقسام: أصلٌ، ومعقولُ أصلٍ، واستصحاب. أما الأصل فهو ثلاثة أدلة: القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع. وأما معقول الأصل فقسمه إلى أربعة أقسام: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، والاستدلال بالحصر، ومعنى الخطاب وهو القياس. ثم تحدث عن استصحاب الحال، والاجتهاد، وختم الكتاب بمباحث الترجيح.

6- التبصرة في أصول الفقه، وشرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي (أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي الشافعي، ت476هـ):

التبصرة في أصول الفقه: قصد منه مؤلفه الاستجابة لرغبة بعض أصحابه في وضع كتاب متوسط الحجم في بيان المسائل المختلف فيها في أصول الفقه. وقد جاءت مسائله كالآتي: مسائل الأمر؛ مسائل النهي؛ مسائل العموم؛ مسائل الاستثناء؛ مسائل المجمل والمفصل؛ مسائل المطلق والمقيد؛ مسائل دليل الخطاب؛ مسائل الأفعال؛ مسائل النسخ؛ مسائل الأخبار؛ مسائل الإجماع؛ مسائل التقليد؛ مسائل القياس؛ مسائل الاجتهاد.

شرح اللمع: هو شرح للمختصر الذي وضعه لبيان أصول المذهب الشافعي، وسماه “اللُّمع في أصول الفقه”. افتتحه بأربعة أبواب تمهيدية: باب في بيان الحدود في أصول الفقه (تحدث فيه عن مفهوم الحد والعلم والظن الشك والجهل والعقل)، وباب بيان النظر والدليل، وباب بيان الفقه وأصول الفقه (تحدث فيه عن مفهوم الفقه والأحكام الشرعية الخمسة والصحة والبطلان ومفهوم أصول الفقه)، وباب بيان أقسام الكلام (المهمّل والمفيد، الحقيقة والمجاز، وكيفية أخذ الأسماء واللغات). أما صلب الكتاب فقد قسمه حسب الآتي: الأمر؛ النهي؛ العموم والخصوص؛ المطلق والمقيد؛ مفهوم الخطاب؛ المجمَل والمبيَّن؛ الكلام في البيان ووجوهه؛ الكلام في النسخ؛ باب القول في حروف المعاني؛ باب الكلام في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ باب الخبر؛ باب الإجماع؛ باب القياس؛ باب الاستحسان؛ باب الاستصحاب؛ باب في بيان استعمال الأدلة واستخراجها؛ وختمه بأبواب التقليد والفتيا والاجتهاد.

7- البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني (أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، ت478هـ): افتتح الجويني كتابه بمقدمات تعريفية الغرض منها تزويد طالب علم أصول الفقه بمعلومات تساعده على تكوين تصور إجمالي عن هذا العلم وتفهُّم مسائله.[27] ثم تحدث باختصار عن مباحث التكليف: مفهومه، وشروط المكلَّف، والفعل المكلّف به. وهي المباحث التي وسّعها الأصوليون فيما بعد تحت عناوين: الحكم، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه. وقد ألمح الجويني إلى عدم رضاه عن بعض ما أُدْخِل ضمن مباحث الأصول وهو في حقيقته ليس منها، ولكنه مع ذلك آثر التعرُّض لتلك المباحث في كتابه، حيث يقول: “القول في اللغات ومأخذها وذكر ألفاظ جرى رسم الأصوليين بالكلام عليها”،[28] وقال في مستهل مسائل حروف المعاني: “فصل في ألفاظ جرى رسم الأصوليين بالخوض فيها، فلا وجه لإخلاء هذا المجموع عنها”.[29]

ما تقدم كله يعد بمثابة مقدمات، أما صلب العلم فإنه يرى أنه يتمثل في مباحث الألفاظ والمعاني، حيث يقول: “اعلم أن معظم الكلام في الأصول يتعلق بالألفاظ والمعاني، أما المعاني فستأتي في كتاب القياس إن شاء الله تعالى، وأما الألفاظ فلابد من الاعتناء بها، فإن الشريعة عربية، ولن يستكمل المرء خلال الاستقلال بالنظر في الشرع ما لم يكن ريانا من النحو واللغة”.[30]

8- المستصفى من علم الأصول للغزالي (أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، ت505هـ): يُعَدُّ هذا الكتاب قمة التطور المنهجي لعلم أصول الفقه على طريقة المتكلمين، حيث قام بصياغته في شكل نظرية متكاملة تتسم بحسن الترتيب والتناسق. وقد أشار إلى شيء من ذلك في صدر الكتاب لما كان بصدد بيان منهجه في تقسيم الكتاب، حيث قال: “فيتناول هذا القطب جملة من تفاريق فصول الأصول أوردها الأصوليون مبدّدة في مواضع شتى لا تتناسب ولا تجمعها رابطة، فلا يهتدي الطالب إلى مقاصدها ووجه الحاجة إلى معرفتها وكيفية تعلقها بأصول الفقه”.[31]

بنى الإمام الغزالي منهجه في تأليف الكتاب على الهدف من علم الأصول، وهو: معرفة كيفية اقتباس الأحكام الشرعية من الأدلة السمعية،[32] وبناء على ذلك، ينبغي أن يشتمل مضمون هذا العلم على النظر في “الأحكام، ثم في الأدلة وأقسامها، ثم في كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، وفي صفات المقتبس الذي له أن يقتبس الأحكام”.[33] وبذلك جعل النظرية الأصولية قائمة على مقدمة منطقية،[34] وأربعة أقطاب: أولها: الأحكام، وهي الثمرة المطلوبة من هذا العلم، والثاني: الأدلة الشرعية، وهي الـمُثْمِر، ومعرفة الـمُثْمِر تأتي بعد معرفة الثمرة، والثالث: وجوه دلالة الأدلة، وهي طريق الاستثمار، والرابع: المجتهد الذي يستنبط الأحكام من الأدلة الشرعية.

9- الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الحنبلي (أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبلي، ت513هـ): ذكر ابن عقيل في مستهل كتابه أن ما دفعه إلى تأليف هذا الكتاب هو العمل على تبسيط أصول الفقه وتسهيل عباراته الغامضة في كتب المتقدمين، وإخراجه من التجريد الذي أدخله فيه المتكلمون “ليخرج بهذا الإيضاح عن طريق أهل الكلام وذوي الإعجام إلى الطريقة الفقهية والأساليب الفروعية”.[35]

سلك ابن عقيل في مؤلفه طريقا مختلفة عن متقدميه ومعاصريه، واتخذ منطقا متميزا في ترتيب أبوابه، وهو منطق يقوم على مسألة الاتفاق والاختلاف حول المسائل الأصولية. افتتح كتابه -على طريقة أبي يعلى الفراء- بتعريفات للمصطلحات الأصولية والفقهية وكثير من المصطلحات المنطقية، إلا أنه كان أكثر توسعا من أبي يعلى، حيث أخذت هذه التعريفات حجما كبيرا. ومما تميز به كتاب الواضح تخصيص باب لمبادئ الجدل الأصولي بلغ حجمه حوالي 200 صفحة (في النسخة المحققة) وهو ما لم يفعله قبله أحد. ثم بعد ذلك انتقل إلى الحديث عن مراتب الأدلة الشرعية، ولم يأخذ هذا الجزء حجما كبيرا (120 صفحة)، ولعله حاول الاقتصار فيه على ما هو أساسي في هذه المباحث ومحل اتفاق أو قبول من الأغلبية. ثم انتقل إلى مناقشة الاعتراضات الواردة على هذه الأدلة وخص منها الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول الصحابي، والقياس، ثم تكلم عن الأوامر والنواهي، والعموم، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، والنسخ، والأخبار، والإجماع، والتقليد، وحجية القياس، وأخيرا الاجتهاد.

10- المحصول في علم أصول الفقه للرازي (فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، ت606هـ): افتتح الكتاب بمجموعة من المقدمات: مفهوم أصول الفقه؛ مفهوم بعض المصطلحات مثل العلم والظن والنظر والدليل والأمارة؛ الحكم الشرعي وأقسامه؛ التحسين والتقبيح؛ شكر المنعم؛ حكم الأشياء قبل ورود الشرع. ثم انتقل إلى الحديث عن اللغات: الأحكام الكلية للغات؛ تقسيم الألفاظ؛ الأسماء المشتقة؛ أحكام الترادف والتوكيد؛ الاشتراك؛ الحقيقة والمجاز؛ التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ؛ كيفية الاستدلال بالنصوص الشرعية على الأحكام. ثم تكلم عن الأوامر والنواهي. وبعدها أحكام العموم والخصوص. وبعدها مسألة حمل المطلق على المقيد. وبعدها تحدث عن البيان والمجمَل والمبيَّن. ثم تكلم عن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وعن علاقتها بشرع من قبلنا. ثم أحكام النسخ. ثم مباحث الإجماع. ثم الكلام عن الأخبار وما يتعلق بها من أحكام. ثم تحدث عن تفاصيل القياس. وختم الكتاب بمباحث الاجتهاد والمفتي والمستفتي.

11- الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (علي بن محمد الآمدي، ت631هـ): قال المؤلف عن منهجه في الكتاب: “أحببت أن أجمع فيها ]معاني أصول الفقه[ كتابا حاويا لجميع مقاصد قواعد الأصول، مشتملا على حلّ ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول، متجنِّبًا للإسهاب وغثِّ الإطناب، مميطا للقشر عن اللباب.” [36] ولكن النظر في مضمون كتابه يدل على أنه لم يكن أقلّ إلغازا وتجريدا ممن سبقه.

قسم كتابه إلى أربعة محاور: الأول: تحقيق مفهوم أصول الفقه ومباديه، قسمه إلى ثلاثة أقسام: المبادئ الكلامية، والمبادئ اللغوية، والمبادئ الفقهية والأحكام الشرعية (أقسام الحكم الشرعي). الثاني: تحقيق الدليل السمعي وأقسامه وما يتعلق به (قسمه إلى الأدلة الصحيحة وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال، والأدلة الموهومة وهي: شرع من قبلنا ومذهب الصحابي والاستحسان والمصلحة المرسلة). الثالث: أحكام المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين، الرابع: في الترجيحات.

 


[1] أبو الحسين البصري، المعتمد، ج1، ص8-9.

[2] الأسنوي، نهاية السول في شرح منهاج الأصول، ج1، ص

[3] أبو الحسين البصري، المعتمد، ج1، ص8.

[4] الجويني، البرهان، ج1، ص8.

[5] الأدلة الشرعية في رأيه هي: خطاب الله تعالى، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراره، وإجماع الأمة، والقياس، واستصحاب البراءة الأصلية، وفُتيا العالم في حق المجتهد. أبو إسحاق الشيرازي، اللمع في أصول الفقه، ص10.

[6] الغزالي، المستصفى، ج1، ص15.

[7] ابن الحاجب، منتهى الوصول والأمل، ص2.

[8] الباقلاني، التقريب والإرشاد، ج1، ص172-173.

[9] أبو الحسين البصري، المعتمد، ج1، ص9.

[10] السبكي، علي بن عبد الكافي، الإبهاج في شرح المنهاج، تحقيق وتعليق شعبان محمد إسماعيل (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1401هـ/ 1981م) ج1، ص19.

[11] الغزالي، المستصفى، ج1، ص15.

[12]  يقول ابن خلدون عن علم أصول الفقه: “واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غُنْيَة عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يُحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يُحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا فمنهم أُخِذ معظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النَّقَلَة وخبرتهم بهم. فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل، واحتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنًّا قائما برأسه سموه أصول الفقه”. ابن خلدون، المقدمة، ج3، ص1064.

[13] عبد الوهاب أبو سليمان، الفكر الأصولي، ص 47.

[14] أشار الإمام الشافعي إلى شيء من ذلك في رسالته، ص41، 53.

[15] انظر: أبو سليمان، الفكر الأصولي، ص102. يقول الأستاذ محمد مصطفى شلبي: “والأصول في نظري غالبها بحوث نظرية جاءت وليدة الزمن، اضطُرّ إلى وضعها أتباع المذاهب المقلدون، ضبطا لمذاهب أئمتهم، ودفاعا عنها في مجالس المناظرات، فجاءت ملتوية حسبما يُوجَّه إليها من الطعون والاعتراضات”. محمد مصطفى شلبي، تعليل الأحكام، ص4.

[16] انظر في تحليلٍ لمضمون وأسلوب الرسالة: أبو سليمان، الفكر الأصولي، ص73-86.

[17]  انظر نماذج من المؤلفات الأصولية التي تبرز أثر البيئة العلمية في تطور البحث والتأليف في هذا العلم في: أبو سليمان، الفكر الأصولي، ص96-120.

[18]  يرى الإمام الزركشي أن من جاء بعد الإمام الشافعي تركز عملهم على البيان والشرح والتوضيح لِمَا جاء في الرسالة “حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسّعا العبارات، وفكّا الإشارات، وبيّنا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتفى الناس آثارهم”. الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ج1، ص3.

[19] علاء الدين أبو بكر محمد بن أحمد السمرقندي، ميزان الأصول في نتائج العقول، تحقيق محمد زكي عبد البر (د.م: د. ن، 1404هـ/ 1984م).

[20] محمد بن عبد الحميد الإسمندي، بذل النظر في الأصول، تحقيق محمد زكي عبد البر (القاهرة: مكتبة دار التراث، 1412هـ/ 1992م).

[21] أبو الثناء محمود بن زيد اللامشي، كتاب في أصول الفقه، تحقيق عبد المجيد تركي (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1995م).

[22] هذه قائمة بشروح كتاب الرسالة للشافعي: أولا:  دلائل الأعلام في شرح رسالة الإمام، لأبي بكر الصيرفي (ت330 هـ). ثانيا: شرح رسالة الإمام الشافعي، لأبي الوليد حسان بن محمد بن هارون القرشي (ت349 هـ). ثالثا: شرح رسالة الإمام الشافعي، لأبي بكر محمد بن علي بن إسماعيل (ت365 هـ). رابعا: شرح رسالة الإمام الشافعي، لأبي بكر الجوزقي (ت388 هـ). خامسا: شرح الرسالة، لأبي محمد الجويني والد إمام الحرمين (ت438 هـ). سادسا: شرح الرسالة، لتاج الدين عمر بن علي اللخمي الإسكندري المالكي الشهير بالفاكهاني (ت734 هـ). سابعا: شرح الرسالة، لأبي زيد عبد الرحمن الجزولي المالكي (ت741 هـ). ثامنا: شرح رسالة الإمام الشافعي، لجمال الدين الأفقهسي ابن العماد الشافعي (ت808 هـ). تاسعا: شرح الرسالة، لأبي القاسم عيسى بن ناجي المالكي (ت837 هـ).

[23]  الفكر الأصولي، أبو سليمان، ص126.

[24] السرخسي، أصول السرخسي، ج1، ص10.

[25] الباقلاني، التقريب والإرشاد الصغير، تحقيق عبد الحميد أبو زنيد، ج1، ص81-82

[26]  كتاب المعتمد في أصول الفقه، أبو الحسين البصري، ج1، ص7.

[27]  عبارة الجويني: “والغرض من ذلك، أن يكون الإقدام على تعلمه مع حظ من العلم الجُمليّ بالعلم الذي يحاول الخوض فيه”. البرهان، ج1، ص77.

[28]  الجويني، البرهان، ج1، ص130.

[29]  الجويني، البرهان، ج1، ص135.

[30]  الجويني، البرهان، ج1، ص130.

[31]  الغزالي، المستصفى، ج1، ص8.

[32]  الغزالي، المستصفى، ج1، ص7.

[33]  الغزالي، المستصفى، ج1، ص7.

[34]  مع أن الغزالي قد أعطى هذه المقدمات شأنا عاليا، حيث يرى أن “من لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا”، إلا أنه صرح بأنها “ليست من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها”. المستصفى، ج1، ص10. أما تعليل إدخال هذه المقدمة في كتابه هذا عن أصول الفقه، فقد أشار إلى أنها جاءت من باب الاستطراد في بيان بعض الموضوعات التي لها تعلق بتعريف أصول الفقه بكونه “معرفة أدلة الأحكام” فاقتضى الأمر الاستطراد للحديث عن المعرفة والعلم وطريق الوصول إليهما وهو النظر والاستدلال، والحديث عن الدليل. وقد اعترف الغزالي بأن مثل هذا الصنيع “مجاوزة لحد هذا العلم، وخلط له بالكلام، وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم، فحملهم حبّ صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة، كما حمل حبّ اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول، فذكروا فيه من معاني الحروف ومعاني الإعراب جملا هي من علم النحو خاصة، وكما حمل حبّ الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر، كأبي زيد رحمه الله وأتباعه على مزج مسائل كثيرة من تفاريع الفقه بالأصول، فإنهم وإن أوردوها في معرض المثال وكيفية إجراء الأصل في الفروع، فقد أكثروا فيه… وبعد أن عرّفناك إسرافهم في هذا الخلط، فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شيء منه لأن الفطام عن المألوف شديد والنفوس عن الغريب نافرة، لكنا نقتصر من ذلك على ما تظهر فائدته على العموم في جملة العلوم…”. المستصفى، ج1، ص9.

[35]  الواضح في أصول الفقه، أبو الوفاء ابن عقيل، ج1، ص5.

[36]  الآمدي، سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، ضبطه وكتب حواشيه الشيخ إبراهيم العجوز (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت) ج1، ص6.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *